«عوض« و«شاروبيم» - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«عوض« و«شاروبيم»

نشر فى : الإثنين 4 يناير 2021 - 9:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 5 يناير 2021 - 8:02 م

لم تكن سنوات الكساد الكبير سهلة على عائلة «شاروبيم»، فقد حملتهم ظروف المعيشة على مغادرة بلدهم الأم إيطاليا، وانتهى بهم المستقر فى مصر فى مدينة الإسكندرية أولا، ثم فى القاهرة بعد ذلك بأشهر. أتقن «شاروبيم» إصلاح وتجارة الساعات، حتى استطاع أن يحصل على توكيل كبرى العلامات التجارية للساعات الأوربية، واتسعت تجارته لتشمل نصف محال ودكاكين «العتبة» التى خصص جانبا منها لورش الإصلاح، والجانب الأكبر لبيع الساعات. كان «شاروبيم» منضبطا مثل ساعاته، يخرج من بيته فى السادسة صباحا، ولا يرجع إلا فى السادسة مساءً بعد أن يتم جولة كاملة على جميع محاله سيرا على قدميه، متابعا لأدق تفاصيل تجارته وأحوال العمالة والزبائن.
مرت السنون وتقدّم العمر بالخواجة «شاروبيم» ولم تعد مباشرته لأعماله مهمة يسيرة، خاصة أن ولديه قد غادرا البلاد بغرض التعليم فى جامعات أوروبا، ولم يبق معه فى مصر سوى ابنته وزوجة مريضة، وأصبح كل محل فى عهدة أقدم عامليه. تراجعت إيرادات المحال بسبب ظروف الحرب، لكن الشائعات ترددت حول تعرّضها للسرقة على أيدى العاملين بها، وكان من السهل على جيران السوء إدخال الريبة فى قلب رجل عجوز، يعيش شبه وحيد فى بلد المهجر.
اشتعلت الخلافات اليومية بين «شاروبيم» وبين مرؤوسيه، واتخذت فى كثير من الأحيان طابعا هزليا يظهر خلاله التاجر اليهودى العجوز على هيئة «شايلوك» تاجر البندقية فى مسرحية شكسبير، وتثير انفعالاته التى تصعد ثم تهبط دون أى عقوبة سخرية أصحاب المتاجر والدكاكين، بل وصارت مادة للنكات التى يتسامر بها رواد المقاهى بوسط البلد.
***
تملّك الشك من «شاروبيم» ولم يعد يثق بأى من العاملين لديه حتى صبيحة ذلك اليوم. فقد خرج «شاروبيم» من بيته القريب من الموسكى، واتكأ على عصاته البالية حتى صار على أعتاب أحدث محاله لتجارة الساعات، وهناك حدث ما لم يتوقعه، فقد رأى شابا فتيا يمسك بتلابيب مدير المحل ويصرخ فيه: «أيها اللصوص إنكم تسرقون الخواجة شاروبيم»... كل من حضر الواقعة يقسم أن الخواجة لم يحقق فيها أو يسأل عن حيثيات ذلك الاتهام، لكن الجميع يؤكدون أن هذا الشاب الفتى «عوض» قد انفتحت له طاقة القدر على حد وصفهم، إذ عيّنه «شاروبيم» مديرا لهذا الفرع وترك له حرية تعيين وفصل العاملين. كان عوض يحمل شهادة الابتدائية، وكان عمله فى هذا الفرع مجرد موظف استقبال بعد أن ترقّى من وظيفة فرد أمن فى فرع آخر لمحال الخواجة.
أيام قليلة مرت على تولّى عوض إدارة المحل، غيّر خلالها طاقم العمل بأكمله، منهم من طرد ومنهم من عزّ عليه أن يعمل تحت إدارة هذا الشخص المحدود، وتهامس الناس عن هذا الشاب الذى عيّن الأقارب والأنساب فى تجارة مخدومه العجوز. لم يلتفت «شاروبيم» لأى من تلك الأقاويل، فقد أقفل ذاكرته على واقعة الشجار التى كان بطلها هذا الشاب الأمين، وصار يمضى معظم وقته فى الفرع الذى يديره «عوض»... إذا ظهر «شاروبيم» على ناصية الشارع كان «عوض» يهرع لاستقباله، يجعل ذراعه متكأً له حتى يبلغ موقعه فوق كرسى الإدارة، الذى يحيط به ثلاثة نفر يقومون على خدمة الخواجة، أحدهم يقرأ له الجرائد، وآخر يعد له الشاى والقهوة، وثالثهما يقف بغير عمل، وكأنه حارس شخصى أو احتياطى لزميليه!..
لم يعتد «شاروبيم» تلك المعاملة الاستثنائية فى محاله الأخرى، ليس بعدما تقدّم به العمر على أية حال. كان المحل يحقق أقل الإيرادات، لكن الخواجة قانع بما يحققه من انضباط تحت قيادة «عوض» وكيف لا وقد كان يطرد كل شهر عاملا بتهمة التقصير، بل وامتدت اتهاماته لبعض الزبائن أنهم على علاقة بطاقم العمل السابق وكانوا يحصلون على بضائع المحل بثمن بخس.
استمر «عوض» فى إدارة المحل لمدة عام، كان فى الشهرين الأخيرين كثير الجلوس إلى «شاروبيم» فى ساعة ما بين العصر والمغرب، وهو وقت يقل فيه الزبائن، وتهدأ فيه برامج الإذاعة، ويأنس فيه الخواجة إلى حديث مرؤوسيه. استطاع «عوض» أن يوغر صدر «شاروبيم» من مدير أكبر فروع ميدان الأوبرا، أكد له أنه يسرق إيراد المحل، وأنه على الرغم من تحقيقه لأعلى الإيرادات بين محال الخواجة، فمن الممكن أن يحقق أكثر وأكثر لو تمت إدارته بأمانة ونزاهة. لم يلبث «شاروبيم» أن عزل مدير ذلك الفرع وضمّه إلى إدارة «عوض» الذى أبدى فى البداية نوعا من التمنّع، لكنه سرعان ما شمّر ساعديه وانطلق يعيد فى فرع الأوبرا ما صنعه فى فرع الموسكى.
كان تراجع الإيرادات ملفتا فى الفرع المنضّم حديثا لإدارة «عوض» لكن الخواجة لم يصدّق أن السبب يكمن فى سوء الإدارة وتخلّص «عوض» من الكفاءات، بل هو موقن أن خطة مرؤوسه الأمين سوف تثمر فى النهاية ولو بعد حين، وأن زيادة الإيرادات فى المحال الأخرى لا تعدو أن تكون تلاعبا محاسبيا نتيجة لتآمر الجميع على التاجر العجوز. لم يمض عامان حتى صار «عوض» مديرا لجميع فروع وأعمال الخواجة «شاروبيم» وهو الآمر الناهى فى كل صغيرة وكبيرة.
***
انتهت الحرب وانتعشت التجارة فى محال العتبة من جديد، ولم يكن يخسر سوى «شاروبيم»، حتى إن تجارة الساعات التى ظل يحتكرها سنوات فى وسط البلد شهدت غزوا كبيرا ومنافسة جادة من تجار آخرين من أصول تركية وشامية. عبثا حاول «شاروبيم» أن يحلل سبب الخسائر، لكنه كان يصطدم كل مرة بحجج لا تنتهى من «عوض»، وأخيرا أنصت إلى أحد أصدقائه من تجّار الأقمشة، الذى رتّب له مقابلة مع بعض زبائنه ومؤوسيه السابقين بعيدا عن أعين «عوض» ونواطيره. التقى «شاروبيم» بوجوه يألفها، لم يكن يرى منها سوى كل إحسان وإتقان، كان يسأل عن أحدهم فإن كان مرؤوسا، أخبره «عوض» أنه ترك العمل إما لفساد ذمته أو لطمعه فى زيادة راتبه أو لضبطه وهو يسرق... وإن كان زبونا مستداما، أخبره «عوض» أنه انقطع عن الشراء بعد أن امتنع عن منحه هدايا غير مستحقة كان يحصل عليها من المدراء السابقين أيام «الميغة» (على حد وصفه، ويقصد العشوائية والفساد).
خرج «شاروبيم» من المقابلة ذاهلا يقلّب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية على عروشها. خرج موقنا بأنه وقع ضحية لـ«عوض» الذى كانت قصته الأولى لضبط المدير الفاسد لفرع الموسكى محض كذب وافتراء. كان ذلك المدير يوبّخ عوضا لمعاكسته إحدى السيدات من روّاد المحل، فما إن لمح «عوض» الخواجة قادما من بعيد حتى اصطنع قصة السرقة، وافتعل معركة راهن خلالها على أن «شاروبيم» المعمى بالريبة من مرؤوسيه سوف يبتلعها طعما سهلا، خاصة أن المدير المفترى عليه لم يكن يتقن العربية جيدا، ولم يفهم ما كان يصرخ به «عوض» ليدافع عن نفسه... منذ ذلك الحين مكّن الخواجة عوضا من ماله وتجارته وتبوأ منهما حيث يشاء، لكنه فى طريق تمكينه لم يكتف بما انتزعه من مركز لا يستحقه، بل حرص على تفريغ محال «شاروبيم» من الكفاءات، ووضع أهل الثقة والقرابة محلّهم، وأقام نظاما لتفتيش الزبائن عند الخروج من المحل، حتى نفر المحترمون منهم وغادروا بغير رجعة. كان يريد أن يظهر فى هيئة الأمين على مال سيده، لم يمتلك أية مؤهلات فنية أو إدارية، فقط الأمانة والحرص المصطنعين. لم تثبت السرقة فى حق «عوض» أبدا، لكن ما فعله فى تجارة شاروبيم كان أخطر من السرقة والتبديد.
مات «شاروبيم» بعد أيام من اكتشافه حقيقة «عوض»، رجع ولداه من الخارج مكلومين ليرثا تركة من الديون والأحكام القضائية بالطرد والإفلاس. أما «عوض» فقد بحث طويلا عن عمل بعدما أنفق كل ما جمعه على علاج ابنته من داء عضال، واستقر به الحال حارسا للأمن فى محل لبيع الأحذية بالموسكى.
كاتب وخبير اقتصادى

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات