مِمَّ يخاف نسرنا الخطاف - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مِمَّ يخاف نسرنا الخطاف

نشر فى : الخميس 4 فبراير 2010 - 9:22 ص | آخر تحديث : الخميس 4 فبراير 2010 - 9:22 ص

 الدهشة هى حقا أول الحكمة، وفى قول آخر هى أمها، وهى طاقة تجديد إيجابية للروح على عكس الاستغراب الذى هو هجمة معتمة تحبط الروح، وعندما لا أجد الدهشة فى عالم البشر ألتمس العثور عليها فى دنيا الحيوانات والطيور والسحب والأنهار والبحار والجبال والبحيرات والشجر، وفى رحلة بحث عن الدهشة، تكاد تكون يومية عبر مصادر مختلفة، أضفت لدهشتى كائنين يحملان صفة «المصرى» فى المراجع البيئية العالمية، أحدهما نمس، والآخر حمار، والثالث كنت قد تعرفت عليه منذ سنوات وكتبت عنه قصة للفتيات والفتيان فيما مكثت أكتبه طوال خمسة عشر عاما فى باب «بيتنا الأرض» بمجلة العربى الصغير، وكانت بعنوان «لماذا خاف النسر الخطاف»، وهى عن نسر عجيب السلوك تسميه المراجع العلمية «النسر المصرى»، والمدهش أننى وجدت هذا النسر المصرى يثير دهشتى مجددا، وإن من زاوية مختلفة، ومرتبطة أشد الارتباط بدهشة الالتقاء به فى المرة الأولى.

الجديد الذى وجدته فى «النسر المصرى» هذه المرة هو هذا الرابط الموحى بين الحيوانات والبشر، والذى يُسمّى فى علم الفراسة «قانون المشابهة»، فمن مشابهة إنسان بحيوان نستطيع أن نتوقع طبائع الإنسان من تعرفنا على الحيوان الذى يشبهه. ومن خلال المشابهة وجدت هذا النسر المصرى أقرب بشكله وعقله إلى وزير عجيب لعله أكثر وزراء مصر ذكاء، وهو خفيف الدم خفة أولاد البلد الصُيّع والشوارعية الأصيلين، برغم أنه ابن ناس وسليل عائلة ارستقراطية ثرية مرموقة، لكن كيف يوظف ذكاءه الخارق، وإلى أين يمضى بخفة دمه الحقيقية الملحوظة، هذا هو السؤال الذى يمكن أن نجيب عليه من التفرُّس فى شبيهه «النسر المصرى»!

والنسر المصرى Egyptin vulture، هو نسر ضئيل داكن، وله نظرة متخابثة وساخرة بصياعة تشبه صياعة أولاد شبرا. وعلى فكرة، النسور علميا هى الـvultures، وليست الـeagles كما توردها الترجمات الشائعة، لأن الـEagles تعنى العُقبان، وهى مختلفة كثيرا عن النسور التى ليست أبدا كما نُحسِن الظن بها، فالنسور تبعا للتصنيف العلمى تمثل النوع الردىء من الطيور الجارحة، الأضعف والأتفه والأكثر انحطاطا فى أكلها، فهى كنّاسة رمرامة، لا تصيد بل تنتظر العثور على جثة حيوان ميت، وتنتظر أكثر حتى تتفسخ هذه الجثة، فتهوى عليها بمناقيرها الهشة وأعناقها الطويلة، تلُغُّ من الجيفة حتى تثقل وتنسطل بما لغّت فتعجز عن الطيران، وتتوارى فى أى خُنٍّ أو مغارة حتى تهضم ما أكلته لتخِفّ وتعاود الطيران والتحليق الواطئ من جديد، بحثا عن رمة جديدة!

هذا «النسر المصرى» يعُتبَر الأدنى مكانة بين أقرانه: النسر الضخم أبو بُرنس، والنسر الأسود سواد الليل، والنسر الهجين. وإذا حطوا على جيفة معا، يتوجّب على النسر المصرى أن ينتظر حتى يكون آخر من يرمرم منهم! بالرغم من كونه يتميز عنهم جميعا بأنه الأكثر ذكاء، بل إن ذكاءه يفوق ذكاء العقبان الأرقى مرتبة بين الطيور الجوارح، ويكاد يكون الطائر الوحيد الذى يستخدم أداة خارج تكوينه يستعملها فى معيشته، لكنه للأسف يستخدم هذا الذكاء الاستثنائى فى الخطف واللهف، فما إن يعثر على بيضة نعامة شاردة حتى يسرق البيضة خاطفا إياها بين مخالبه ويحط بها بعيدا فى درْوَة، ثم يلتقط بمنقاره قطعة حجر ويحلق فوق البيضة مُسقطا عليها قطعة الحجر من ارتفاع مُحدّد، فى نقطة بعينها، وبدقة فائقة.. مرة بعد مرة حتى يتكسّر مُستطيل صغير فى قشرة بيضة النعامة السميكة الصلبة دون أن تتحطم كلها، ثم يهبط صاحبنا المصرى ليفتح بمنقاره داخل إطار المستطيل المُتهشِّم نافذة يُدلى برأسه فيها، يلتهم جنين البيضة الطرى إن كان تكوَّن، وإن لم يكن، يرتشف الزلال ويشفط المُح!

سلوك نشال مصرى محترف من نشالى الأتوبيسات المنقرضين الذين ينشل أحدهم المحفظة ويُخليها من الفلوس ثم يلقيها بما فيها من أوراق خاصة وبطاقة شخصية فى مكان مهجور ليعيدها من يعثر عليها إلى صاحبها أو يسلمها للشرطة كى تتصرف، وكان هناك فى ذلك الزمن لصوص متحضرون يضعون المحفظة المنشولة فى صناديق البريد لتعود إلى صاحبها المغدور فيخف إحساسه بالغدر، وهى تقاليد فى دوائر النشل لم يعد لها وجود، فالنشل بخفة اليد وبعض الرحمة انقرض أيضا مع انقراض نشّالى الزمن الذى مضى، وتحول النشل إلى «تثبيت» بقوانين القهر والإكراه السائدة، فتحت تهديد السنج والمطاوى ومية النار والسلاح الميرى فى بعض الحوادث، يضطر الضحايا مُكْرَهين إلى تسليم كل ما بحوزتهم مخافة ضربة بشلة فى الوجه أو سكبة مية نار شاملة أو غزة سنجة فى البِز، وهى مرادفات عينية لمصطلحات حكومية من نوع: غرامات عدم تقديم الإقرارات، والحبس للتأخر فى الدفع، وعقوبات التهرُّب الضريبى، وكل ما يماثلها من اختراعات مالية صايعة فى عالم البشر.

أدهشنى جدا ولا يزال سلوك النسر المصرى الذى يعجبنى ذكاؤه الاستثنائى بين كافة الطيور، كما أننى أتفهّم دوافعه للتحايل والتخابث فى الخطف والنشل، فهو يتحرك فى إطار تكوينه الهش الموروث، وضمن سلسلة متكاملة للتنوع البيئى فى حياة البرارى والغابات، وهو يفعل ما يفعل ليأكل ويعيش، لهذا أستغرب لشبيهه البشرى شديد الذكاء وسليل الثراء، خفيف الظل ولمّاح الفهم، لماذا يَقْبَل على نفسه أن يتحول إلى خَطّاف، والأغرب أنه لا يخطف لنفسه، فهو ليس فى حاجة مادية إلى الخطف، بل يخطف لجيوب إدارة فاشلة تُهدِر ما تُهدِر بالجهالة والبذخ ومؤاخاة الفساد والمفسدين، وتدفع بصاحبنا ليستهلك ذكاءه فى الخطف لها حتى تغطى عجزها الذى هو عجز كفاءة وضمير قبل أن يكون عجزا ماليا أو نقصا فى الموارد.

الأقصوصة التى كتبتها عن النسر المصرى منذ سنوات، انتهت بأن الخطاف بعد أن فتح نافذة فى بيضة النعامة التى سرقها وهمّ بمد منقاره داخلها فوجئ بعينين طازجتين صاحيتين تنظران إليه فى ثبات، كانتا عينى فرخ النعام فى البيضة الموشكة على الفقس، وأرعبته نظرة عينى فرخ النعام اللامعتين المدورتين ثابتتى التحديق، ففرّ هاربا لأنه اعتاد أن يخطف وينشل خلسة وبعيدا عن الأنظار. هكذا خاف النسر المصرى الخطاف فى الأقصوصة التى تحريت فيها حقائق سلوكه الفطرى والمتوقع منه فى سياق هذا السلوك، أما شبيهه البشرى فلا أظن أن أى نظرة ثابتة من أى عينين غضتين أو غير غضتين يمكن أن تخيفه أو تردعه، فهو يخطف على المكشوف، وعينى عينك، ويبرر خطفه بأنه يلبى احتياجات ميزانية تعود فوائدها على عشرات الملايين خاصة الفقراء، بينما هو فى قرارة نفسه وبعقله شديد الذكاء وتجربته الشوارعية فى الصياعة المستغنية، يدرك أنه يلبى بالخطف من جيوب الناس وبيوتهم طلبات إدارة لا يهمها من عشرات ملايين الناس إلا حفنة من ذوى النفوذ والمستفيدين والأتباع، كى تستمر فى مواقعها ويستمر هو فى المعية، مرتضيا أن تنصب عليه وحده لعنات عشرات الملايين، وكأنه بات يستملح اللعنات!

ولأننى صدقا أستخسر كل ذكاء يتم إهداره فى خدمة الفساد والسفاهة والجور، بينما يتوجب توظيفة فى الحق والعدل والخير، أُعيد على مسامع النسر المصرى البشرى حكمة رائعة جليلة للسيد المسيح عليه السلام، تقول:

«ماذا يفيد الإنسان لو كسب العالم وخسر نفسه»؟!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .