في محبة أمينة رشيد.. أستاذة وناقدة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في محبة أمينة رشيد.. أستاذة وناقدة

نشر فى : السبت 4 مارس 2023 - 8:05 م | آخر تحديث : السبت 4 مارس 2023 - 8:05 م
(1 )
أعتبر نفسى من المحظوظين الذين تعرفوا على الراحلة الدكتورة أمينة رشيد، الأستاذة والناقدة الجليلة؛ أستاذة الأدب والنقد بقسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب جامعة القاهرة، والتى رحلت عنا فى سبتمبر 2021 بعد عمرٍ أمضته متبتلة فى محراب العلم والأدب والفن والنقد؛ زاهدة فى الشهرة والمناصب والمال، ساعية لغرس بذور المستقبل الحقيقى لأبنائها وبناتها من طلاب وطالبات الأدب والنقد بأقسام الآداب (الفرنسية واللغة العربية وغيرهما) طوال ما يزيد على نصف القرن.
عشتُ عمرا لا أرى أمينة رشيد ــ أثناء دراستى الجامعية وعقب التخرج ــ إلا الأستاذة الجليلة والأم الحقيقية التى غمرت طلابها جميعا بمشاعر ود صادقة ومعاملة إنسانية راقية لم أجد لها مثيلا. وكنت أيضا ممن حظوا بقضاء أوقات رائعة ومفيدة معها فى مسكنها بمدينة المبعوثين، مع أستاذى الراحل الدكتور سيد البحراوى. ذلك المسكن الذى كان قبلة لكل طلاب الأدب والمعرفة والباحثين الشبان من كل الاتجاهات المعرفية.
كانت تستقبلنا بكل حبور ومحبة وفرح وبشاشة. هادئة فى غاية الوداعة والسلم، مخلصة للعلم والمعرفة وللتدريس، تقرأ وتكتب وتُخرج أبحاثا غاية فى الرصانة والدقة والإحكام. لا أنسى ما كتبته عن نشأة الرواية العربية، ولا مقارناتها التحليلية بين نصوص بعض كتاب الستينيات، وبعض كتاب فرنسا من تيار ما بعد الكتابة الجديدة.

(2)
بعد سنوات من القراءة والبحث ومعاودة تمثل نصوصها النقدية والثقافية، لا أتردد لحظة فى اعتبار أمينة رشيد فى الطبقة الأولى الممتازة من ناقداتنا ونقادنا والمقارنين العرب (المشتغلين بالأدب المقارن) فى نصف القرن الأخير، وإن كانت تنأى دائما بنفسها عن الأضواء، وتبتعد تماما عن البروباجندا، كانت شديدة الإخلاص والجدية للعمل والتبتل فى البحث والقراءة، ولهذا كان إنتاجها النقدى ــ على قلته تأليفا وترجمة ــ من أعمق وأخصب النتاجات النقدية التى كتبت بالعربية؛ كانت أصيلة فى تنظيراتها النقدية، مثلما كانت دقيقة ومستبصرة فى تحليلاتها وقراءاتها التطبيقية لنصوص الأدب العربى (أو نصوص الآداب الأخرى غير العربية). بهدوء ووداعة عاشت، وفى محراب العلم والفكر والأدب بذلت جهدها وطاقتها، وفى هدوء وسلام رحلت.
وقد جاء الكتاب الصادر أخيرا عن (دار المرايا للإنتاج الثقافى) ليؤكد ويرسخ هذه الصورة التى رسمتها طوال عمرى لهذه المثقفة الملتزمة صاحبة المبادئ والمواقف، المناضلة بحق (دون أن تتاجر أبدا بتاريخها ومواقفها.. أبدا) الناقدة والأستاذة والباحثة والمقارنة بين النصوص والآداب والثقافات؛ ذات الثقافة الفرنسية الرفيعة، والمتمسكة جدّا بجذور ثقافتها العربية الأصيلة من دون تناقض أو ازدواج أو التباس كما حدث لدى كثيرين!
الكتاب بعنوان «أمينة رشيد أو العبور إلى الآخر» حررته بالفرنسية سلمى مبارك، وترجمته إلى العربية داليا سعودى، وهو على صغره (يقع فى 160 صفحة من القطع الأقل من المتوسط) يمثل مدخلا ممتازا للتعرف على أمينة رشيد تلك التى بهرتنى وبهرت عارفيها وتلاميذها بسيرتها النقية ومواقفها الصلبة، وسلامها الداخلى، وتصالحها الوادع مع الدنيا بأسرها، هذا على المستوى الشخصى.

(3 )
بحسب محررة الكتاب، فقد بدأ مسار أمينة رشيد المثقفة الملتزمة، الباحثة والأستاذة الجامعية، صاحبة الرؤى المجددة فى الأدب المقارن، فى مصر الكوزموبوليتانية خلال الأربعينيات من القرن الماضى. نشأت فى بيت أسرة أرستقراطية، كان علمها الأشهر جدها إسماعيل باشا صدقى، أشهر مستبد فى تاريخ مصر الليبرالية، وصاحب دستور 1930 سيئ السمعة!
وقد تمردت أمينة رشيد تمردا كاملا على هذا الانتماء الطبقى، واشتبكت مع اللحظات الكبرى، كما تقول سلمى مبارك، فى تاريخ استمر حتى بداية الألفية الثانية، امتزج فيه الشخصى بالجماعى، وعبرت خلاله حدودا عدة بين اللغات، والثقافات، والبلدان، والطبقات الاجتماعية، فى رحلة شجاعة من أجل التلاقى مع الآخر. وقد شكَّل الأدب المقارن الفضاء الرحب لهذا اللقاء الإنسانى والثقافى، ومنحتها مهنة الأستاذ الجامعى مساحة حرة تتشارك فيها مع طلابها شغفها بالأدب، وإيمانها بالكلمة كأداة للمعرفة ولتحقيق عالم أفضل.

(4)
يأتى هذا الكتاب الصادر بالتعاون مع معهد العالم العربى بباريس، وهيئة جائزة الملك فيصل، ضمن مشروع مخصص لتعريف القراء بمائة سيرة شخصية تحتفى بأعلامٍ اتخذوا من فكرة «الوساطة» المعرفية أو الجسور «الوسيطة» بين ثقافتين ولغتين أو أكثر، نهجا أو سبيلا للإطلال على العلاقات القائمة بين العالم العربى وفرنسا.
وتصف الدكتورة سيزا قاسم هذا الكتاب فى التمهيد القيم الذى كتبته بأنه «دراسة وافية ضافية، استخلصت فيها سلمى مبارك رؤية أمينة رشيد للعالم، فضلا على مسيرتها الأكاديمية ورسالتها الأخلاقية والفكرية تجاه بلدها».
يؤكد الكتاب على الحقائق التى يخبرها جيدا على المستوى المعرفى والعلمى والنقدى كل من اتصل بأمينة رشيد أو استمع إليها أو قرأ لها، فأنت بإزاء «ناقدة قديرة» و«أستاذة جليلة» بكل ما تعنيه الكلمة من قدر ومكانة وعمق وخبرة ودراية يندر أن تجتمع فى فرد واحد. فلم تتصد أمينة رشيد لبحث قضية من القضايا أو مصطلح أو مفهوم أو تيار نقدى من دون أن تحيط به إحاطة الخبير العالم المدقق، ثم تصوغ هذه الإحاطة بأبسط وأيسر الطرق وأعمقها بالعربية، وهى التى تلقت معارفها الأولى، وكانت وسيلة الاتصال الثقافى الأساسية بالعالم من خلال الفرنسية.
تكتب عن قضايا نشأة الرواية العربية، وتتوقف عند بعض النصوص الأولى بذات الجدية والرصانة التى تدرس بها «الأدب المقارن»، والدراسات المعاصرة لنظرية الأدب، وتكتب عن فرانز فانون وإدوارد سعيد بذات الفهم المستوعب والدراية التى تكتب بها عن علم اجتماع النص وعلم اجتماع الأدب والأدب المقارن عموما.

(5 )
إن هذا الكتاب قبس من نور أمينة رشيد لكل أبنائها وبناتها، وطلابها وطالباتها، ومن تتلمذوا على يديها وتنعموا بفيض أمومتها ووافر معارفها وثقافتها وعلمها، وهو يستحق مقالا مفردا لمزيد من الإضاءة والقراءة والتعريف.
(وللحديث بقية)