«إيلوثيريا» باسم صبرى - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«إيلوثيريا» باسم صبرى

نشر فى : الأحد 4 مايو 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 4 مايو 2014 - 8:00 ص

كنت قد كتبت لهذا الأحد عن حالة الجنون التى نعيشها، وعن كيفية الخروج من دائرة العنف الجهنمية التى تكاد لا تتوقف، دما وتفجيرات وأحكاما بالإعدام، حتى جاءنى خبر مصرع واحد من شباب كنا نراهن على بقاء ضمائرهم نقية وسط كل هذا «التلوث» والجنون.

كنت كلما التقيت باسم تذكرت محمد يسرى سلامة السلفى «مؤسس حزب الدستور»، والذى ذهب عنا فجأة فى مارس ٢٠١٣ وكأنه مكتوب علينا أن تصمت أصوات العقل والحكمة التى كنت أراها بحق تجسيدا لتلك اللحظة العبقرية ظهيرة الحادى عشر من فبراير٢٠١١ يوم وقفت مصر كلها، شبابها وشيوخها، نساوها ورجالها، مسلموها ومسيحيوها، منتقبات وحاسرات الرأس يرددن خلف الشيخ محمد جبريل دعاء القنوت فى ميدان كان يومها ميدان «كل المصريين». أهدرنا اللحظة.. ورحل محمد يسرى سلامة، ومن بعده باسم صبرى ومعهما شباب آخرون كثيرون ذهبوا دون أن يروا مصر «الجديدة» التى حلموا بها يومها.

فى ذكرى مولده الثلاثين، وقبل أقل من عامين نشر الموقع الإلكترونى للمصرى اليوم مدونة لباسم صبرى كان قد اختار لها عنوانا، «إيلوثيريا» وهى كلمة يونانية Eleutheria تعنى الحرية، كان صمويل بيكيت Samuel Beckett رائد مسرح العبث قد اختارها عنوانا لأولى مسرحياته. وأظن، وسط عبث الاستقطاب الذى نعيشه، والذى يتعيش أساسا على افتراض كل منا أنه «وحده» يملك الحق المطلق أن ما كتبه الراحل النبيل يومها، يستحق أن أضع ما كنت قد كتبته جانبا، وأن أخصص لما كتبه هو يومها هذه الصفحة، مع ما ستضطرنى إليه اعتبارات المساحة من اختصار.

•••

كتب باسم صبرى:

«أجلس مع نفسى أُسَطِّر هذه الكلمات وأنا أفكر فى مرحلة جديدة من عمرى، تبدأ سنواتها بالرقم ٣ بدلا من الرقم ٢. شعرت بالهلع على مدى الأسابيع السابقة لهذا التحول، وازداد هلعى كلما اقترب ذلك اليوم الفاصل فى أواخر شهر أكتوبر. ثم أتى ذلك اليوم ومر، ولا أزال موجودا، ما زالت ملامحى هى ذاتها ملامحى منذ أسبوع مضى، كل ما تغير هو إدراكى لبعض الأشياء. فجأة، مرت كل أعوام عمرى حتى يومى هذا أمام عينى، ووجدت نفسى أدرك فى لحظة واحدة كل ما أدركته على مدى تلك الأعوام كلها.

.....

قد يتقدم بك العمر ولا تزداد حكمة، بل وربما قد تقل حكمتك ــ إن زدت ــ عندا وغرورا. وتعلمت فى هذا الإطار أن الغرور هو أخطر ما يقتل البشر، وأن أسوأ أنواع الغرور هو ما يعمى صاحبه عن وجوده، فيتصور أنه فعلا إنسان عظيم ولا يخطئ.

.....

عشت طفولتى معتقدا أن مصر هى مركز الكون بسبب «موقعها الجغرافى المتميز ومناخها الحار جاف صيفا ودافئ ممطر شتاء» كما قاموا بتحفيظنا بالمدارس، واعتقدت أن حسنى مبارك هو أعظم رؤساء العالم كما كان يكتبون فى الأهرام وتقول القناة الأولى، واعتقدت أنه لا يمكن أن يكون هناك بشر جيدون بعيدا عمن كانت عقيدتهم كعقيدتى. ثم سافرت، ونطق لسانى اثنتى عشرة لغة، وسمعت أذناى مائة وعشرين. ورأيت أوروبا وأمريكا والهند والصين ودول العرب، فرأيت من يسب رئيس دولته فى الإعلام فى أعظم الدول تقدما، ورأيت أن المجتمع يرى أن هذا ثمن مقبول للحرية، وأن من يترشح ضد ذلك الرئيس ويقول بفشله أمام العالم كله لا يجد نفسه قابعا فى زنزانة بعد الانتخابات. رأيت أحزابا وتيارات تتنافس من أجل الفوز بثقة وأصوات شعوبها عن طريق التنافس على خدمتهم ودون تقسيم لأفراد الشعب إلى أعداء وحلفاء، ورأيت ــ مصدوما ــ أن بعض الدول لا ترى أن الرئيس مبارك هو أعظم رؤساء العالم كما كانوا يقولون فى الأهرام وتقول القناة الأولى، بل إن بعضهم لا يعرف حتى من هو حسنى مبارك، وأن الكثير من الأنظمة تحاول أن تقنع شعوبها بأنها مركز الكون وأن حكومتها وزعيمها هما الأهم فى العالم. ثم رأيت الشعب ذاته ــ وأنا منضم إليه ــ يثور ليُسقِط مبارك ونظامه، فإذا بذات الأهرام وذات القناة الأولى تحتفلان بسقوط ذات الطاغية الذى كانتا ترددان اسمه منذ أيام!

كما عرفت أن الحدود من صنع البشر، وأنك فرد من البشرية قبل أن تكون فرنسيا أو صينيا أو أمريكيا، وأن الوطنية العمياء هى فكرة من الماضى، وأن القدر هو السبب أنك وُلدت كما وُلدت.

كما قابلت هندوسا وبوذيين ومسيحيين ويهودا ولا دينيين ومن لا يزالون يبحثون وغيرهم، وقابلت ذوى البشرة البيضاء والسمراء والصفراء والحمراء والبنية وبين البينين وما يصعب تصنيفها، ووجدتهم كلهم بشرا مثلى، منهم من هو أفضل منى ومنهم من لا أريد أن أكون مثله، وصرنا أصدقاء وصرت كإنسان أكثر ثراء، وأدركت أن البشر شىء واحد، وأن التعايش ممكن، وأننا لابد أن نلفظ دعاة الكراهية بيننا، وأننا سنحقق بالقلم والكلمة أكثر وأسرع بالكثير مما سنحققه بالأسلحة والجعجعة، وأننا علينا أن نسمو فوق قادتنا وجماعاتنا وأحزابنا وحكوماتنا ومصالحهم. وبالإضافة، فقد صرت أكره كل محاولات تصنيف البشر إلى أيديولوجيات ومجموعات محددة ومعلبة مسبقا، فذاك ليبرالى وذاك يسارى وذاك إخوانى وذاك أناركو ـ سينديكالى، وكأنه لا يوجد من يمكنه أن يؤمن بخليط من تلك الأفكار، أو من يمكنه أن يبتكر فكرة جديدة، مع إدراكى أن بعض البشر ليسوا مولعين بالضرورة، فى بادئ الأمر، بالأفكار الجديدة أيّا كانت. كما تعلمت أننا كلنا تقريبا، على اختلافنا، قد أدركنا القاعدة الذهبية للإنسانية: أن تفعل لغيرك ما تريده لذاتك، أيّا كان، وألا تفعل فى غيرك ما لا تريده لذاتك، أيّا كان، وأن ما تفعله سوف يُرد إليك أضعافا مضاعفة، المر والحلو منه.

شموع وأزهار للتذكير بباسم في حديقة نيويورك

.....

أدركت أنه ليس من حق أحد البشر أن يتحكم فى بشر مثله إلا فيما لا يؤذى غيره، وأننا أقوى بكثير من الظروف بأكثر مما تصورت. أدركت أنه ليس من حق أحد أن يُسكِت أحدا أو أن يتحكم فيما يقرأ أو يعرف، فهو بشر مثله مثل غيره وليس أفضل من غيره لكى يتحكم فيه إن كانت الأدوار معكوسة. كما أدركت أن الحرية ليست فقط هى الحرية من قيود السلطة والقوانين المجحفة، ولكنها أيضا الحرية من قيود توقعات الغير لك، والتوقعات غير المنطقية للذات، وألا تخلط بين ما تريده أنت وما يريده من حولك والقريبون منك لك، وبين ما يعتقد المجتمع أنه هو الصواب الأصوب لك وللكل، وأن تختار أنت بذاتك ما تريده أنت لذاتك، حتى ولو كان كل ما سابق ذاته. كما تأكدت أنه إن قام المرء بالسكوت يوما عن ظلم وقع لغيره لأنه لا يعنيه مباشرة أو لأن ذلك الظلم قد يفيده أو يريحه بصورة ما، فسيأتى اليوم الذى يقع فيه الظلم ذاته أو أسوأ منه على ذات المرء، ولن يتحدث أو يأتى أحد دفاعا عنه، وسوف يحس المرء بمرارة الشعور باستحقاقه لما يحدث له.

وأدركت أن أغلب من يتحدثون بغضب وصوت عالٍ عن أفكارهم دون داعٍ هم خائفون ومهزوزون. ووجدت أغلب البشر شديدى الثقة بشكل مستفز فى أيديولوجياتهم وأفكارهم السياسية والاقتصادية والفلسفية، وكأن كل من حولهم غبى مخدوع أو ساذج أو سيئ، وأنهم هم وحدهم من أدركوا كل شىء، وأدركت أنه لا يوجد إنسان واحد يجيد تحييد تحيزاته الإنسانية قبيل قيامه باتخاذ قرار أو تبنى موقف، فكل إنسان لديه ما سيريحه بحياته ولن يختار بسهولة الحقيقة إن أبعدته عما يرتاح إليه، وسيقوم تلقائيّا بالبحث عن الحقيقة فى أى شىء بالشكل الذى يوصله إلى ما يريد مسبقا الوصول إليه. وعرفت أن مقولة «لا أعرف، ولست متأكدا، وربما لن يمكننى التأكد تماما» هى موقف مقبول جدا، فأنا لن أعرف كل شىء، ولن أفهم كل شىء، وإن حاولت أيهما فلن أجد الوقت لفعل أى شىء. كما أدركت أننى علىَّ أن أراجع ذاتى إن وجدت نفسى دائما متفقا مع من حولى ومشابها لهم، أو إن وجدت نفسى دائما أختلف معهم ولا أشابههم. وتأكدت أننى مهما كنت مقتنعا ومنبهرا برجل علم أو فكر، فيجب أن أفكر فى كل ما يقول، وأن أقتنع بكلامه عن حق إن أستحق ذلك، وأن أفكر أكثر وأعمق فى الأقوال كلما زاد تعلقى بذلك المعلم. واكتشفت أنه من الأفضل أن أفكر قبل أن أنطق، بدلا من أن أفكر فى ندم بعد أن أنطق، فالكلمة تظل إلى الأبد، كما أن الله قد خلقنا بفم واحد وأذنين اثنين، لكى ننصت ضِعف ما نقول.

.....

علمت أن الحياة دون هدف كالقارب دون وجهة، تعصف بها الرياح كما تشاء. الحلم هو أحلى ما فى الحياة، والحياة دون حلم كالهيكل العظمى الذى ليس له ملامح، وأن الحلم غير المبنى على الواقع والواقعية سيصير كابوسا يسقط بك من أعلى، وأن الحلم الذى لا يتحدى الواقع ولو قليلا قد يكون حلما غير كاف. وتعلمت أن أسير إلى الأمام إلى هذا الحلم والهدف كل يوم، ولو كان ذلك بخطوة واحدة، بدلا من أن أهرول يوما وأن أقف يوما وأن أتراجع يوما، وأن الطريق أمتع من الوجهة. وتعلمت أن أتقبل كل ما حدث فى حياتى، وما لا يمكننى تغييره اليوم، وأن أغير ما يمكننى تغييره، وأن أعرف الفارق بينهما. كما تعلمت أننى يمكننى أن أتغير إلى الأحسن، مهما تقدم بى العمر، وأن الشباب والشيخوخة هما حالتان فى الذهن قبل أن يكونا حالتين فى الجسد، وأن أحاول أن أستيقظ كل يوم إنسانا أفضل من اليوم الذى سبقه، ولو كان ذلك بمقدار بسيط، وأن أفعل ذلك كله مبتسما ولو رغما عنى، فالابتسامة تبقيك وتبقى غيرك أحياء، والابتسامة صدقة»

•••

رحم الله باسم صبرى... ورحمنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ النص كاملا بالانجليزية

ــ تغريدات باسم صبري

ــ المدونة: «مواطن عربي»

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات