اكتناز الذهب.. ملاذ من الأزمة أم تعجيل بها؟! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 2 ديسمبر 2024 4:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اكتناز الذهب.. ملاذ من الأزمة أم تعجيل بها؟!

نشر فى : الإثنين 4 يونيو 2018 - 9:30 م | آخر تحديث : الإثنين 4 يونيو 2018 - 9:30 م

كلما اشتدت الأزمات المالية أو بدت فى الأفق نذر أزمات جديدة بحثت الأموال عن ملاذات آمنة ــ نسبيا ــ كمخزن للقيمة وبدائل للاستثمار. حالة عدم اليقين بخصوص الأوضاع فى الشرق الأوسط، ومغامرات الإدارة الأمريكية اليومية، وخاصة إجراءات الحرب التجارية الأخيرة تحت غطاء الحمائية المفرطة ضد المكسيك وكندا ومن قبل الصين، وارتفاع أسعار الفائدة فى الأرجنتين وتركيا إلى مستويات تاريخية، واضطراب منطقة اليورو الذى يتجدد اليوم مع تصاعد حدة الأزمة السياسية فى إيطاليا، والتى ربما تسفر عن حل للبرلمان فى يوليو المقبل، يعقبه دعوة إلى تصويت على الخروج من العملة الأوروبية الموحدة، علما بأن إيطاليا هى ثالث أكبر اقتصاد فى المنطقة.. كل ذلك وغيره من مخاوف تنتقل عبر قنوات العدوى المالية، يضفى قدرا من المصداقية على تحذيرات رجل الأعمال الشهير «جورج سوروس» من أزمة مالية عالمية وشيكة، ويعطى زخما لحركة تدفقات الأموال بعيدا عن العملات الكبرى مثل اليورو والدولار، ويعطى إشارة إلى مبيعات محمومة فى الأوراق المالية فى مختلف أسواق المال.. بما يسارع بالفعل من تحقيق أزمة مالية تحقيقا للنبوءة التى تحقق ذاتها بالضرورة كلازمة من لوازم علم الاقتصاد.
يظل الذهب متربعا على عرش البدائل التى تصلح كملاذ آمن خلال تلك الاضطرابات، لكن حالة المقاومة التى تبديها أسواق المال وأسواق العملات، وارتفاع أسعار صرف الدولار فى الفترة الأخيرة، كنتيجة متوقعة لإجراءات الحماية التجارية وإشارات «أمريكا أولا» والتى قد تعنى فى المستقبل القريب «أمريكا وحدها»!..تزيد من تقلبات أسعار الذهب فى بورصات السلع.
حاليا مازال مستثمرو الذهب الكبار يحاولون فهم ما يحدث فى الأسواق. هل تحرك العملة الذهب، أم تحركه أسعار الفائدة؟ تحركات أسعار الذهب فى سوق السلع خلال جلسات تداول الأسبوع الماضى، يقرؤها المحللون الفنيون بأنها مؤشر على غياب القرار بخصوص شراء المعدن النفيس فى الأجل القصير. مع هذا تجد أحد رجال الأعمال من أصحاب المليارات يقدم فى ليلة واحدة على تحويل نصف ثروته إلى ذهب!.
***
القرار بشأن تضمين محفظة الأصول الخاصة بك قدرا من الذهب، هو مسألة تتصل بعملية التحوط ضد مخاطر تقلبات الأسواق، ومن ثم هناك من يرى ضرورة وجود الذهب بنسبة ما فى المحفظة الاستثمارية التى تتضمن أسهما وسندات وأصولا عقارية، وعملات، وسلعا (ومنها المعادن وفى مقدمتها الذهب). ولأن الذهب لا يمثل خصما على أية حكومة أو مؤسسة فإن عددا من مديرى المحافظ الاستثمارية يرون ضرورة وجوده كعنصر ثابت فى أى محفظة. وفقا لبحث نشرته كاسى للبحوث Casey research عام 2014 ومازالت آثاره منطبقة على الوضع الراهن (كما أكد «جاستن جودبريد» المدير التنفيذى لأحد بنوك الاستثمار فى مقال بـ«فوربز» فى 30 مايو 2018) فإن العائد على الاستثمار فى الذهب يدور حول 5% منذ عام 1934! وهو عائد لا بأس به مقارنة بأدوات الدخل الثابت، وإذا أردت أن تتخذ لنفسك مركزا ماليا مستقرا فى الأجل الطويل. البحث المذكور يوضح أيضا أن العائد على الاستثمار فى الذهب قد تجاوز العائد على الاستثمار فى مؤشر S&P 500 بنحو 5% خلال الفترة من 2004 إلى 2014، وربما يرجع ذلك إلى استنفاد مخزون الذهب على نحو متسارع خلال تلك الفترة. مع هذا تظل تكلفة الفرصة البديلة لاقتناء الذهب ــ أو قل لاكتنازه ــ كبيرة خلال الفترات التى تشهد استقرارا نسبيا لبدائل الاستثمار التقليدية والتى تحقق معها الأسهم عالية الجودة عائدات تفوق كثيرا العائد على الاستثمار فى الذهب وسائر أدوات الدخل الثابت. هنا تأتى أهمية المفاضلة بين المخاطر والعائد، والأمر يختلف وفقا لدرجة تحمل الفرد والمؤسسة للمخاطر، فالعائد الكبير يأتى مع نسبة أكبر من المخاطر والعكس صحيح. لذا ينصح الخبراء المختصون بأن تبقى فى محفظة أصولك نسبة «ضئيلة» من الذهب من أجل التحوط ضد تقلبات أسعار الأسهم فى الأجل الطويل.
حاليا يواجه الذهب تحديا كبيرا أمام الارتفاع الذى يشهده الدولار الأمريكى مقابل اليورو، لكن إن استمرت السياسة الأمريكية التجارية فى الجنوح، فربما تسبب ذلك فى ردود أفعال أوروبية وآسيوية عنيفة تؤدى إلى عزلة أمريكية نسبية، وتقلل من أهمية الدولار كعملة للتجارة العالمية وعملة احتياطى. هذا بالطبع لن يحدث فى أى أجل قريب، فنحن مازلنا نتحدث عن توقعات من منظمة التجارة العالمية بتراجع حجم التجارة العالمية بنسبة 6% كنتيجة مباشرة لسياسات الولايات المتحدة الحمائية، واستحضار المخاوف من تكرار سيناريو الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن الماضى ليس منطقيا، فحينها تراجعت التجارة العالمية بنحو 60% فلا وجه للمقارنة !.
***
على مستوى القرار الفردى فإن تحويل قدر من الاستثمارات إلى الذهب فى صورة معدن أو صورة شهادات الذهب ومشتقاته المختلفة من العقود، ربما يكون قرارا صائبا خاصة إذا كانت نسبة المعدن النفيس فى المحفظة الاستثمارية محدودة ولا تزيد على 5% إلى 10% على الأكثر. لكن إن اتسعت دائرة هذا التوجه لتشمل قرارات الدول وكبرى المؤسسات لاكتناز الذهب والفضة فإن الضرر الذى يصيب الاقتصاد العالمى يكون كبيرا، تتأثر به معدلات النمو فى الناتج والتجارة وسائر أوجه النشاط الاقتصادى.
يقول الله تعالى فى محكم تنزيله: (وَالَذِينَ يَكْنِزُونَ الذَهَبَ وَالْفِضَةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَهِ فَبَشِرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[التوبة:34). ولأن الله تعالى لا يأمر إلا بالنفع ولا ينهى إلا عن ضرر فانظر إلى حضه تعالى فى غير موضع على الإنفاق ونبذ البخل والشح والاكتناز، وهو أمر يتعدى القيم الدينية والعقائدية وتعظيم التكافل الاجتماعى إلى التنظيم الاقتصادى القائم على خلق الطلب الفعال بتشجيع الإنفاق على اختلاف صوره، لمحاربة الكساد والركود وتحقيق الرواج بذات الكيفية التى دعا إليها الاقتصادى الشهير «جون ماينرد كينز» للخروج من ربقة الكساد الكبير عبر آلية مضاعف الإنفاق الاستهلاكى والاستثمارى. الاكتناز يعنى خروج الأموال المكتنزة فورا من الأسواق وحرمان الوحدات الاقتصادية منها طوال فترة تخزينها. حرى بمن يكنزون ثرواتهم فى الذهب اليوم أن يستثمروا فوائضهم المالية فى أوجه النشاط الإنتاجى والخدمى وكل ما ينشئ قيمة ويخلق فرصا للعمل والتشغيل، وهو فى ذات الوقت استثمار يحقق عائدا أكبر بكثير من العائد على الاستثمار فى الذهب، خاصة إذا تحول النهم لاكتنازه إلى إشارة سلبية تعجل بتفاقم الأزمات الاقتصادية، وتنشر الذعر المالى، وتؤدى إلى هروب الأموال من البنوك والأسواق.. الأمر الذى لا يبقى معه أى مكتنز فى مأمن من التداعيات السلبية التى لا تصيبن الذين لم يتحوطوا خاصة.
نهم اقتناء الذهب هو سمة أصيلة لفكر التجاريين، الذين ينتمى إليهم الرئيس الأمريكى الحالى وفقا لكثير من المحللين. فالتجاريون كانوا يسعون إلى جمع الذهب عبر تصدير السلع وتحقيق فائض فى ميزان التجارة، وعبر تشجيع دولهم على استعمار دول أخرى للحصول على الذهب بشتى الطرق. وربما يكون إحياء فكر التجاريين من قبل الدولة الأكبر والأهم فى العالم سببا فى انتقال حمى جمع الذهب إلى أثرياء العالم. كذلك أصبح التكهن بمستقبل الاقتصاد العالمى وموازين القوى السياسية شديد الصعوبة، فى ظل الارتباك المسيطر على المشهد فى الدول الكبرى، ما من شأنه اتخاذ قرارات استثمار خاطئة، وإصدار احكام متسرعة بشأن تنويع الاستثمارات فى المحافظ.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات