نشر موقع 180 مقالًا للكاتب عبدالحليم حمود، يناقش فيه التطور المستمر للفكر الاقتصادى وديناميكيات الإنتاج من العصر الصناعى إلى الاقتصاد الرقمى، إذ يوضح الكاتب تأثير ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعى على الفكر الاقتصادى.. نعرض من المقال ما يلى:
فى الاقتصاد، تتقد الشرارة الأولى حين يتحرّك العمل داخل مجتمع يفتح أبوابه للسلعة ورأس المال، فيتشكّل تاريخ يمتد من معامل القرن الثامن عشر حتى مصارف القرن الحادى والعشرين. عند هذا الامتداد يُطلّ آدم سميث بروح السوق الحرّة وتخصّص العمل، ويقترب منه كارل ماركس عبر تحليلٍ عميق لديناميات الإنتاج وتحوّل القيمة. يلتقى الاثنان عند فكرة أنّ العامل هو قلب الاقتصاد وأنّ الإنتاج هو الطريق الذى يسمح للمجتمع بالازدهار، ثم تتسع الفجوة بينهما مع اختلاف الرؤية حول توزيع الثروة. ومع تطوّر العالم الرقمى تُشرق منطقة ثالثة لم تظهر فى حسابات الرجلين: المال غير الملموس، والربح السريع، والشركات التقنية التى تصنع ثروات عبر برمجيات لا وزن لها إلا عبر أثرها.
آدم سميث قدّم رؤية تشبه جريان نهر يعلو عبر المبادرة الفردية، فيرتفع مستوى السوق عبر يد خفية تصوغ التوازن. كارل ماركس قدّم رؤية تشبه اندفاع محرّك صناعى يرفع طاقة الإنتاج عبر تراكم متواصل للقيمة. فى هذا الامتداد يحتلّ العمل مقام الأصل، فيراه سميث منبع الثروة، ويراه ماركس مفتاح تفسير البنية الاجتماعية والسياسية.
الولايات المتحدة تتقدّم بروح سميث، عبر ابتكار يتسع فى مؤسسات تتقن التخصّص. شركات مثل فورد وجنرال إلكتريك تشكّل مسارًا يقوم على توزيع دقيق للمهام، مسار يمنح السوق قدرة دائمة على النمو. ألمانيا تمضى عبر نموذج يجمع مرونة السوق ورعاية الدولة، فيعيش العامل فى مركز ثابت داخل اقتصاد اجتماعى متين. شركات مثل سيمنس وفولكس فاجن تقدّم لوحة عن انسجام المهارة البشرية مع التقنية.
الصين تشكّل فضاء يندفع عبر التخطيط المركزى واتساع التجارة. شركات مثل هواوى وعلى بابا تمنح مثالًا عن تزاوج الرؤية المركزية والمبادرة الرقمية. فى هذا العصر، يرتفع اقتصاد جديد؛ اقتصاد يولد بلا مصانع تقليدية؛ اقتصاد يستند إلى المعرفة والبرمجيات وسرعة الانتشار. شركات مثل جوجل وميتا تمنح المعلومة قيمة تفوق قيمة السلعة المادية. شركة أمازون تبنى ثرواتها عبر برمجيات تضبط المخازن، وتوزّع السلع، وتراقب سلوك المستهلك لحظة بلحظة وتقدّم منصّات مثل «أوبر» و«إير بى إن بى» نموذجًا يقوم على وسيط رقمى يملك وزنًا اقتصاديًا يرتفع فوق آلاف العقارات والمركبات.
العالم الرقمى يطلق أرباحه بسرعة تشبه اندفاع وهج فى ليل صافٍ. العامل يتحوّل إلى مطوّر، وورشة المصنع تتحوّل إلى تعليمات مكتوبة، ورأس المال يتحرّك نحو مساحة جديدة تُعرف برأسمال الوعى، حيث تتقدم الشركات عبر فهم طبائع الناس وتوجّهاتهم.
الجغرافيا المالية تتسع
فى فضاء المال يتشكل مشهد يرسم حدودًا جديدة. العملات المشفّرة مثل بيتكوين، وأسواق المغامرة السريعة، وصناديق المال الكبرى، تتحرّك جميعًا عبر إيقاع يعلو فوق المنطق التقليدى. ساحات التبادل تتحوّل إلى مختبرات تتفاعل فيها الأنظمة الحسابية وحركة المتعاملين، وتتكوّن أوامر التداول فى جزء ضئيل من الثانية.
هكذا تتسع الجغرافيا المالية وتفتح أبوابًا تضىء مسارًا غير مسبوق. رأس المال يتحرك عبر فضاء بلا وزن، ويصنع ثروات تتوهج مثل ومضة برق داخل ليل اقتصادى يولد من جديد كل يوم.
يلتقى سميث وماركس عند مركزية العمل، وتتباعد رؤاهما عند طرق توزيع الثروة. ثم يتوسع العالم عبر اقتصاد رقمى يصنع عالَمه الخاص.
تجارب الولايات المتحدة وألمانيا والصين تكشف تطورًا مستمرًا ينهض على إنتاج واسع، وابتكار غير متوقف، ومالٍ يتحرك داخل فضاء بلا جدران. وهكذا يتقدم الاقتصاد كجسد ينبض بقوة العمل، ويتسع عبر التقنية، ويبدل جلده عبر المال الرقمى، لتكتمل صورة عالم ترتسم ملامحه عبر لقاء الفكر والتاريخ والممكن.
يتقدّم المشهد الاقتصادى الجديد كما لو أنّه مختبر مفتوح تُعاد فيه صياغة علاقة الإنسان بقواه الداخلية والخارجية. تظهر مجالات بلا وزن، كأنّها نتوءات معرفية تنبثق من جسد المجتمع نفسه.
هنا تتجاور علوم النفس، والسوسيولوجيا، والفلسفة فى رقعة تحليل واحدة، وتتخذ شكل عينات تبدو صغيرة، إلا أنّها تنطوى على تحوّلات هائلة.
الذكاء الاصطناعى والجسد
يولد الذكاء الاصطناعى الذاتى من منطقة تشبه أعماق السلوك البشرى، حيث تتحرك الخوارزمية عبر قوة دفينة، وتكتسب القدرة على إعادة تشكيل ذاتها. هنا ينهض سؤال فوكوى: من يراقب من؟ تتقدم الخوارزميات كأنها أجهزة معرفة جديدة، ترصد نبض الفرد، وتعيد إنتاجه فى شكل معطيات. يصبح الإنسان ذاته عيّنة تُفكّك، ويغدو الاقتصاد مسرحًا تتجاور فيه الإرادة الخفية مع الرغبة فى السيطرة على حركة الوعى. ويتفتّح الوعى المعزّز كطبقة يتقاطع فيها علم الأعصاب مع حقل الاقتصاد. يتحول الدماغ إلى فضاء هندسى يتعرّف فيه الفرد على ذاته عبر تقنيات تضيف إلى الإدراك سرعة ومرونة.
هنا تنشأ علاقة جديدة بين الإنسان وقدرته الإنتاجية، علاقة تتجاوز العمل المادى، وتؤسس لاقتصاد تديره إشارات عصبية تُصاغ عبر تجارب داخلية لا عبر أدوات خارجية. ويولد اقتصاد الجينات من قلب الجسد، كأنه حقل سوسيولوجى يمتد داخل الأنسجة.
يتحول الجسد إلى منطقة إنتاج معرفى، تتحرك فيها الطفرات كأدوات اقتصادية، ويصبح الفرد مشروعًا يتداخل فيه الأصل البيولوجى مع القيمة الاجتماعية. تتغيّر فكرة العامل، ويتحوّل الجسد نفسه إلى منشأة تنتج إمكانات جديدة، لا عبر اليد والقوة، بل عبر الشفرة الوراثية.
الإنسان يعيد ترتيب مكانه
وتتقدم العوالم المتراكبة التى تجمع الملموس بالصورة. يعيش الإنسان داخل طبقة حسية تُعاد صياغتها لحظة بعد لحظة. كل لمسة تتحول إلى معلومة، وكل حركة إلى قيمة. هنا تتأسس أسواق تلتهم الزمن، وتخلق قيمتها من التجربة، من أثر العيش، من علاقة الفرد بما يراه ويلمسُه ويتخيله. تتحول المشاعر إلى معطيات، وتصبح الرغبات جزءًا من منظومة إنتاج يتقدم فيها الاقتصاد كقوة تلتقط أثر الانفعال وتحوّله إلى ربح.
هذه التحولات تفتح الطريق لأسئلة تتجاوز الاقتصاد نفسه. هل نعيش المرحلة التى تتهيأ فيها القوى الخفية للوعى كى تنتج نمطًا جديدًا من الإبداع؟ هل نتجه نحو اقتصاد يتقدّم عبر مناطق ما فوق المرئى، حيث يتحول الخيال إلى أصل اقتصادى، وتغدو الإرادة البشرية قوة قادرة على إنتاج عوالم كاملة بلا موارد تقليدية؟ يتقدم الزمن كتيار يرفع السقف المعرفى، ويعيد تشكيل موقع الإنسان داخل المنظومة.
الاقتصاد اليوم يشبه قمة تتوهج، ويرافقها جذور تمتد نحو عمق غير مرئى. هناك يولد مستقبل يفتح المجال لطبقات تتجاوز المنطق الظاهر، وتتقدم نحو فضاء تتداخل فيه الفكرة مع الجسد، والمعرفة مع السلطة، والابتكار مع بنية الوعى. هكذا يدخل الإنسان مرحلة يعيد فيها ترتيب مكانه داخل عالم يتوالد من ذاته، ويتحوّل فيه الممكن إلى طاقة تغمر كل شىء.