الحديقة - داليا شمس - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 9:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحديقة

نشر فى : الأحد 5 أبريل 2015 - 9:30 ص | آخر تحديث : الأحد 5 أبريل 2015 - 9:30 ص

1984. لا أقصد بالمرة رواية جورج أورويل الشهيرة التى ذاع صيتها أخيرا بين المصريين وصودرت لمجرد أنها تتحدث عن المجتمعات السلطوية ــ البوليسية حيث يخضع الجميع للمراقبة، لكن 1984 هى سنة بدايات مشروع إنشاء حديقة الأزهر. بزغت الفكرة خلال مؤتمر نظمته شبكة الأغاخان للتنمية فى هذا العام بعنوان «امتداد المدينة: مواكبة النمو العمرانى للقاهرة». وقرر إمام الطائفة الإسماعيلية الشيعية كريم شاه الحسينى (أغاخان الرابع) أن يهدى إلى سكان العاصمة حديقة على مساحة 30 هكتارا، تقام مكان مقلب للزبالة عمره 500 سنة، يحده سور المدينة الأيوبية من القرن الثانى عشر من جهة، ومن جهة أخرى المقابر التى ترجع إلى عصر المماليك فى القرن الخامس عشر. أى أراد أن يحول «مزبلة التاريخ» إلى حديقة غناء على الطراز الإسلامى، مع الاختلاف أن الجناين التقليدية فى العصر الإسلامى كانت بالأحرى ممتلكات خاصة تحاكى غالبا ما جاء فى وصف حدائق الجنة، أما حديقة الأزهر فهى مفتوحة للجمهور على تنوعه، لكن فى مقابل رسم دخول يسمح بالاعتناء بها وصيانتها وإدارتها، ويتم ذلك بالتعاون مع شركة محلية خاضعة لإشراف الحكومة المصرية.

•••

بعد افتتاحها رسميا عام 2004 صارت الحديقة مزارا يفخر به العديد من المصريين على اختلاف طبقاتهم، يصحبون الأغراب والأجانب إليها ضمن جوالتهم القاهرية، فهى من المساحات القليلة الخضراء وسط غابة الأسمنت التى لا تسمح لهم سوى باستنشاق عوادم السيارات وزيوت قلى الطعام على الطرقات. كما أنها تقع على ربوة عالية تكشف عن سحر المدينة القديمة بمآذنها وقبابها، فأتاها زوار كثر من مستويات اجتماعية وثقافية متفاوتة.. وكانت هذه نقطة مميزة، فالحدائق العامة ــ القليلة نوعا ما ــ كانت قد هجرتها طبقات المجتمع العليا، فى حين أنها نشأت بالأساس على يد البرجوازية ولخدمتها، بحثا عن أماكن للقاء واستعراض الثروات وإظهار التمايز عن سائر أنماط المجتمع الأخرى منذ منتصف القرن التاسع عشر.. القرن نفسه الذى ظهر فيه مفهوم الحديقة العامة فى أوروبا وبخاصة ألمانيا ثم فرنسا ثم انجلترا، للأغراض نفسها، يضاف إليها قطعا أغراض التسلية والترفيه والنزهة.. حدائق واسعة غناء، تقام فى أماكن مهمة ومركزية، لها رمزية عالية، تعكس صورة الدولة الحديثة والحكم المسيطر على زمام الأمور الذى ينظم حتى علاقة البشر بالطبيعة والأشجار. وتدريجيا تتحول هذه الحدائق عادة إلى أماكن أكثر شعبية.. تهرب منها النخبة التى تنزوى غالبا فى نواديها الخاصة، خلف الأسوار، وهو ما حدث بالفعل فى حديقة الأزهر خاصة بعد ثورة يناير.. اختلف الجمهور وفقد تنوعه السابق، ما يظهر جليا من خلال الملابس ونسبة المحجبات أو بالأحرى المنتقبات إلى غير المنتقبات ونوعية الأنشطة والموسيقى. جاءت هذه الأخيرة عالية، صاخبة، على غرار الأفراح الشعبية، واختفت نغمات الموسيقى الشرقية الخافتة التى كانت تتسلل إلينا عبر السماعات المثبتة بين الأشجار. لم نعد نسمع مثلا كلارينيت إركوز التركى أو عود مارسيل خليفة يأتينا من بعيد كما فى السابق، بل أصوات الدى. جى. لجذب المارة والأطفال.. وفى الساحة وقف المغنى يصدح ويشطح وكأننا فى كازينوهات شارع الهرم.

أفراد الفرقة الموسيقية من حوله يعزفون أغنيات عبدالمطلب ومحمد رشدى بتصرف، فى حين يتحدث «المطرب» فى تليفونه المحمول ويحاول إيصال صوته للطرف الآخر على الهاتف دون جدوى. يبدأ فى الغناء، وبعد كل مذهب يصيح «كو كو» فى الميكرفون، كأنها لازمة طربية أو علامته المسجلة. تنطلق رقصات العرايس والعرسان، ومن خلفهم جيش جرار من الشباب، مؤديا حركات الرقص الشعبى الحديث.. تمتد يد إلى الأمام وكأنها تحمل سكينا، وتسحب أخرى إلى الخلف وكأنها تشد حبلا بشكل متقطع، يتشارك الصبيان والبنات فى الرقص وحركات اليد.. لا فارق بينهما فى أسلوب وطريقة الرقص وخطوات الأرجل.

•••

جو عارم من المرح الشعبى تتحول معه الحديقة إلى مرآة عاكسة لتطورات المجتمع وقيمه وعلاقاته، حتى الهامشية منها والتى لربما لا تظهر بمثل هذا الوضوح والتباين فى أماكن أخرى من المدينة، فالناس جاءوا من كل حدب وصوب ولا يعرفون بعضهم البعض ما يمنحهم حرية أكبر.. جاءوا لينطلقوا فى الطبيعة، داخل مدينة لا بحر فيها ولا غابة. وبعيدا عن الحنين لما كانت عليه الحديقة فى بداياتها من منطلق شخصى بحت، اللافت هنا هو تعبير الحديقة عن التجاذب بين «الكارو» و«المرسيدس»، عن نمط ثقافة يفرض نفسه على الأرض ويطرد آخر ومدى قوته، عن إعادة إنتاج نموذج الجنينة السائد وإعادة استثمار الفضاء العام بعد الثورة، عن علاقة المواطن بالسلطة وبالمدينة، عن كيفية إدارة الدولة لممتلكاتها والعقليات التى تدير وتفرض الأمن وتبدل الاتجاهات.. على هذا النحو يتحول الأزهر بارك إلى «حديقة ناطقة» ومادة خصبة للدراسات المجتمعية والمشاهدات، مادة يجب التوقف عندها قليلا بالبحث والتحليل.

التعليقات