فى قصة السلاح وتهريب شحناته بصورة تفوق أية توقعات لا توجد رواية مصرية شبه متماسكة.
باستثناء إشارات غير موثقة فإن الأسئلة كلها معلقة على مجهول.
لا أحد يعرف شيئا مثبتا عن تمويل الصفقات المروعة وأطرافها وطبيعة تحالفاتها ولا كيف مرت واستقرت فى مخابئها.
فى كل مرة تدوى التفجيرات ويسقط شهداء وضحايا تعاود الأسئلة طرح نفسها بلا إجابات عليها.
هناك ثلاثة خطوط أساسية لتهريب السلاح عبر الحدود مع السودان وغزة وليبيا.
لكل خط تهريب تعقيداته الجغرافية والأمنية والسياسية وقصته الخاصة.
القصة الليبية الأخطر فعبر حدودها تتدفق شحنات السلاح الأكبر.
فك طلاسمها يساعد لحد كبير على إجلاء حقائق تهريب السلاح من جبهتى الحدود الآخيرتين.
المعلومات الأولية التى توافرت للمحقق الصحفى الاستقصائى الأمريكى «سيمور هيرش» عن خفايا إمداد المعارضة السورية بالسلاح من المخازن الليبية عبر الجنوب التركى تطرح سؤالا عما إذا كان سيناريو مشابها قد جرى فى تهريب السلاح إلى مصر؟
بحسب «هيرش» فإن أطرافا إقليمية ودولية اتفقت سياسيا ونسقت استخباراتيا ووفرت التمويل المالى والغطاء السياسى لتهريب السلاح الليبى للداخل السورى عبر ما أطلقت عليه الاستخبارات المركزية «خط الجرذان».
التسمية ذاتها مثيرة، فالجرذان تتلف المحاصيل وتعيش فى المجارى وتصيب بالطاعون، وهذه المواصفات تعنى بالضبط أن الراعى الاستخباراتى يدرك أنها عملية قذرة.
التمويل قطرى وسعودى وتركى والتنفيذ استخباراتى أمريكى بريطانى.
لكل طرف أهدافه وحلفاؤه المحليون فى سوريا كأنه تنافس على مساحة النفوذ وفق قواعد لعبة واحدة.
الخط استخدم من مطلع (٢٠١٢) فى نقل شحنات السلاح وبعضها متقدمة كقواذف الصواريخ أرض جو التى تحمل على الأكتاف، وهى نفس القواذف التى استخدمت من جماعات تكفيرية فى إسقاط طائرة عسكرية مصرية فوق سيناء.
بحسب رواية «هيرش» التى نشرتها «لندن ريفيو أوف بوكس» فى (١٧) أبريل الماضى فإن هناك صدمتين أمريكيتين تعرضت لهما على التوالى إدارة الرئيس «باراك أوباما».
الأولى صدمة اغتيال السفير الأمريكى «كريستوفر ستيفينز» فى بنغازى، وهو الرجل الذى كان يشرف عبر القنصلية الأمريكية على توفير الغطاء اللازم لـ«خط الجرذان» ولم يكن له دور سياسى حقيقى آخر.
والثانية اكتشاف الإدارة الأمريكية أنها قد خدعت من الحليف التركى الذى حاول توريطها فى عمل عسكرى كبير لإنهاء النظام السورى بذريعة أنه استخدم غاز «السارين» الكيماوى ضد المدنيين فى جريمة ضد الإنسانية تنتهك «الخط الأحمر» الذى حدده الرئيس «باراك أوباما».
بحسب «هيرش» فإن المعلومات التركية كانت مغلوطة وأن رئيس الوزراء «رجب طيب أردوغان» هو نفسه متورط بصورة مباشرة فى الجريمة البشعة، وإذا ما ثبتت بحقه الاتهامات فإنه يستحق ملاحقته كمجرم حرب. ما هو منسوب لـ«أردوغان» وفق معلومات استخباراتية ودبلوماسية أمريكية أنه قدم معونات فنية لـ«جبهة النصرة» التكفيرية لإنتاج غاز «السارين» وحرضها على استخدامه ضد مواطنين أبرياء لإلصاق التهمة بنظام «بشار الأسد».
بعد الصدمة الأولى التى ارتكبتها جماعة تكفيرية «حليفة» أوقفت الاستخبارات الأمريكية دورها فى نقل الأسلحة من ليبيا لكن «خط الجرذان» ظل يعمل ولم يعد لها سيطرة عليه.
وبعد الصدمة الثانية التى نفذتها جماعة تكفيرية أخرى فإنها بدت أكثر حذرا من أن تتورط فى حرب يرفضها جنرالاتها.
رواية «هيرش» استكشافية لواحدة من أكثر القصص السياسية غموضا. الأطراف الرئيسية تحاول أن تتنصل من الفضيحة، الاستخبارات الأمريكية تنفى أى دور لها والإعلام الأمريكى تقريبا تجاهل ما كتبه أفضل صحفييها الاستقصائيين وسجله المهنى يزكى رواياته والسياسيون وقفوا فى المسافة ما بين الإنكار التام وعدم الرغبة فى الحديث عن حقيقة ما جرى فى عشاء على شرف رئيس الوزراء التركى فى البيت الأبيض الأمريكى يوم (١٦) مايو (٢٠١٣).
وفق مصادر «هيرش» فإن «أوباما» قاطع مرتين رئيس الاستخبارات التركية «هاكان فيدان» عندما حاول بإيعاز من رئيسه شرح خرق «الأسد» للخط الأحمر قائلا فى كل مرة: «إننا نعرف» قبل أن يضطر فى المرة الثالثة أن يقول: «إننا نعرف أنكم تتعاونون معهم» فى إشارة قاطعة إلى «جبهة النصرة» والدور التركى فى استخدام غاز «السارين» ضد مدنيين عزل وأبرياء.
قصة «خط الجرذان» فى حدود المعلومات التى توافرت حتى الآن أقرب إلى جبال الجليد بعضها ظاهر وأغلبها غاطس والسؤال المصرى الملح على هوامشها: هل هناك «خط جرذان آخر» شملته صفقات وتفاهمات أطراف سياسية واستخباراتية إقليمية ودولية وفر الدعم المالى واللوجسيتى والسياسى لشحنات السلاح إلى مصر عبر الحدود الليبية؟
التنظيمات التكفيرية لا تملك الأموال والخبرات الكافية لنقل هذا الحجم الضخم من السلاح ولا وسائل تأمينه ولابد أن هناك من مول ودعم وساعد على تمركزها فى سيناء وبالداخل المصرى.
بطبائع الصراع على المنطقة وتورط بعض الأطراف الدولية والإقليمية فى عمليات قذرة أن يجرى التفكير فى تهريب سلاح مماثل لمصر من مخازن العقيد «معمر القذافى» بعد إسقاط نظامه ومخلفات حلف «الناتو» بعد انتهاء عملياته العسكرية.
فمصر حدودها ممتدة ووسائل تأمينها صعبة على عكس سوريا التى لا تربطها حدود مباشرة مع ليبيا.
فى الحالة السورية فإن بعض شحنات السلاح ذهبت إلى جماعات تكفيرية كـ«جبهة النصرة» والآن نعرف بدقة نسبية من وقف وراءها، فالأطراف باتت معلنة والشهادات بدأت تخرج للعلن.. وفى الحالة المصرية فإن شحنات سلاح مماثلة وصلت إلى تنظيمات تكفيرية أخرى كـ«أنصار بيت المقدس» دون أن نكون متأكدين تماما من هوية الممولين فالتكهنات تغلب المعلومات والشهادات مازالت فى مكامنها.
وإذا كان مستحيلا بشهادة الوقائع والمصالح والرهانات أن تتورط السعودية فى دعم الإرهاب فى مصر فإلى أى مدى تورط الأتراك والقطريون؟
وإلى أى حد تورطت أجهزة استخباراتية دولية فى اللعبة الخطرة؟
الأكثر لفتا للانتباه فى ملف تهريب السلاح أن الخارجية الأمريكية تتداول الآن مع حلفائها فى عقد مؤتمر دولى لتأمين ليبيا وتطلب من مصر دعم هذا التوجه.
لماذا تقلق الولايات المتحدة الآن؟.. وهل هناك ضغوط أوروبية تحذر من أن تتحول ليبيا إلى أفغانستان أخرى تتمركز فيها القاعدة فى جنوب المتوسط؟
الأسئلة المعلقة تكشف عن أزمة بلد يواجه حربا ضارية مع إرهاب لا يعرف عن يقين من أين تأتيه ضرباته ومن يموله ويسلحه ويوفر له الغطاء السياسى ولا يعرف عن معلومات ما إذا كان هناك خط آخر للجرذان يمر من حدوده وشقوقه إلى قلب مجتمعه.