ولا يزال المضغ مستمرا! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 6:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ولا يزال المضغ مستمرا!

نشر فى : الخميس 5 نوفمبر 2009 - 9:20 ص | آخر تحديث : الخميس 5 نوفمبر 2009 - 9:20 ص

 كنا نظنهم شبعوا، لكن انتفاخ صدوغهم المتواصل خيّب الظن، وذلك المضغ الذى استمرأوه طويلا لم يتوقف. مازالوا على نهمهم الغريب هذا، نهمهم المؤذى لهم ولكل من حولهم، وكان منطقيا أن يتوقفوا عنه، أو على الأقل يقتنصوا فرصة الحديث الذكى عن مخارج آمنة، أو الاقتراح النبيل بمجالس أمناء للعون الرشيد والإنقاذ، إنقاذهم وإنقاذنا وإنقاذ الأرض التى تجمعنا، لكنهم لم يتبدلوا، الكبار منهم كما الصغار، جميعهم ارتدوا ثيابا احتفالية، وزودوا قاعات نهمهم بوسائط إلكترونية حديثة لفتح الشهية، وشعارات رنانة لتيسير الالتهام، استخدموا أدوات أنيقة فى حشو أفواههم بما اعتادوا عليه، وظل مضغهم على حاله.

إلى أين هم ذاهبون بنا، وبأنفسهم؟ لا إجابة واضحة، فنهمهم من نوع غريب، لو كان نهما عصبيا لرأيناهم على الأقل غير متآلفين معه، يأكلون بتوتر، وبتوتر يُرجِعون ما أكلوه. لكنهم ببرود بالغ مستمرون فى المضغ دون توقف. هذا لا يمكن أن يكون مرضا، إنه لعنة، لعنة تُذكِّرنى بلعنة أكثر شخصيات الأساطير اليونانية القديمة نهما، فهل ينتهون إلى المصير الذى انتهى إليه رجل تلك الأسطورة «أريسختون»؟

والأسطورة، كما كل أساطير الشعوب، ليست حكاية مثيرة مسلية فقط، لكنها رسالة حكمة مُشفَّرة، إبداع ينتمى إلى لغة رمزية جهد كثيرون فى كشف رموزها، «فرويد» عالم النفس الأشهر جنح بها كثيرا نحو تفسير جنسى متعسف، و«يونج» المُفارق له ابتعد عن مبالغات التفسير الجنسى الفرويدى لكنه وقع فى المبالغة باتجاه الروحانيات، أما الأفضل فى نظرى والأكثر إقناعا، فهو «إريك فروم» الذى انتهج طريق علم النفس الاجتماعى والسياسى، فوضع أساطير الماضى عارية على مائدة زماننا، وكل أزمنة الإنسان فى مواجهة القوة والسُلطة.. والتسلُّط!

رجل أسطورتنا «أريسختون»، شخصية مجهولة الأصول هبطت على أرض الأساطير اليونانية من المجهول، وفى غفلة غامضة اتجه إلى الغابات المقدسة لهذه الأساطير، اختار أطول سنديانة فى غابة سيدة الغابات «سيريس»، واندفع متجرئا ليقطعها طمعا فى بيع خشبها الثمين، ارتجف كل من حوله رعبا عندما أمرهم بقطعها، ترددوا أمام الفعل المُدنَّس، لكنه لم يتردد، انتزع من أحدهم فأسا وهوى بالضربة الأولى على الجذع الضخم الذى اعتادت أن ترقص حوله حوريات الغابة، انبثق الدم حارا ودافقا من جرح الشجرة، ومن عمق الجرح صدر صوت جريح ينذر الباغى بانتقام سيريس لشجرتها، لكن أريسختون المغرور بعافيته، والذى أخذته العزة بالإثم، لم يتوقف، حتى هوت الشجرة غارقة فى دمائها.

علِمت حوريات الغابة بفظاعة الجريمة، فأسرعن فى عربتهن الشفيفة المرصعة بالأزهار والمحمولة على أجنحة الريح إلى أكثر المناطق برودة فى الغابة، هناك كانت تقطن سيدة الجوع، فقد اخترنها لتنتقم لهن ممن اغتال شجرة أفراحهن العذرية الطهور، وددن لو تبتليه سيدة الركن البارد بجوع لا يبرأ منه جزاء تجويعهن للرفيف الحلو فى ظل الشجرة الحبيبة، وساندت سيريس حوريات غاباتها فدعمت رجاءهن بأن يظل قاطع السنديانة جائعا، لا يشبع أبدا مهما كانت وفرة ما يلتهمه، أن يتضور جوعا والطعام ملء جوفه وفمه.

لم تخيب سيدة الجوع رجاء الحوريات ولا دعم سيريس لهذا الرجاء.. تسللت إلى حيث دخل أريسختون وتمدد وغرق فى النوم، أحاطته بذراعيها الضامرتين وضمته مالئة أنفاسه بأنفاسها فانزرع الجوع فى داخله، واستيقظ مهتاجا يطلب الطعام، أى طعام، فقط ليأكل، وكلما أكل يزداد جوعه ويشتد نهمه. وعلى أمل أن يشبع كان يبيع كل شىء ليشترى طعاما ويأكل، يبيع ويأكل، ويأكل ويبيع ويأكل، حتى لم يعد لديه شىء يبيعه غير ابنته الوحيدة.

قاد المفجوع ابنته إلى ساحل البحر حيث يتم عرض البشر للبيع على تلّة عالية من الرمل تطل على البحر، ولم يكن هناك أحد غيرهما لأنهما وصلا مبكرين قبل وصول المشترين والبائعين والمعروضين للبيع. ومن إطلالتها العالية الأليمة شرعت الابنة المرتعبة تتضرع لسيد البحار «بوسيدون» أن ينقذها من بؤس العبودية التى يدفعها إليها أبوها. ولم يخذل بوسيدون ضراعتها فحولها إلى صياد سمك يرمى بشباكه إلى الماء، فارتج الأمر على الأب الذى اختفت ابنته فى لحظة، ولما لم يجد أحدا على الشاطئ غير هذا الصياد توجه إليه يسأله إن كان رأى فتاة فى هذه الأنحاء، لكن الصياد لم يلتفت إليه ولم يَرُد، بل ابتعد متجها إلى قارب ينتظره متأرجحا على صفحة الماء، ركبه وابتعد، وما أن ابتعد حتى زال السحر.

عادت الفتاة إلى أنوثتها، وما إن عادت حتى عاودتها الشفقة على والدها، رجعت إلى بيت أبيها فوجدته هناك، أخبرته بما حدث لها، ففاجأها بفرحه الذى لم يكن غير فرح شرير، فقد فكر أنه على هذا النحو يمكنه بيعها مرات ومرات، ويشترى بما يُدرُّه بيعها طعاما وفيرا يُسكت به سُعار جوعه!

راح يسوقها لساحات البيع، فيُحَوِّلها بوسيدون الذى لم يُخلف وعدا قطعه على نفسه، لكن الأب كان يبيع الابنة على أى شكل تحولت إليه، فقد صارت يمامة مَرّة، ومَرّة غزالة، ومَرّة فرسا، وعندما كانت ترجع إلى شكلها الأصلى يكرر بيعها، فيتكرر تحوُّلِها، وفى كل مرة تعود إليه لا يتراجع عن بيعها. لكن أكوام المال التى وافرها ذلك البيع المتكرر لهذه الابنة التعيسة، لم تكن تكفى لشراء طعام يسد بئر الجوع فى جوف هذا الأب، فبئر جوعه كانت تزداد عمقا وظلمة.

وفى عمق ظلمته التى بلا قاع، لم يجد مسعور الجوع وسيلة لإشباع جوعه إلا بأن ينقلب على نفسه، فراح يأكل نفسه.. نعم يأكل نفسه. هذا فى الأسطورة التى أبقت للرجل بعض إنسانيته فلم يأكل ابنته الوفية، أما فى الواقع الذى نعيشه، فإن مخلوقات على شاكلته لن تأكل نفسها أولا، بل ستبدأ بمن حولها، الأبعد فالأقرب، أو الأقرب فالأبعد، ثم تنثنى على نفسها لتأكل نفسها على الأرض الخراب..

فهل تسكت الأرض على نذير خرابها؟!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .