فى علم السياسة تتكرر الأسئلة، وربما تتكرر الإجابات، ويختلف حولها أهل السياسة والبحث، منها السؤال التقليدى أيهما يأتى أولا: الحريات السياسية أم التنمية الاقتصادية؟
فى هذا الصدد كل إجابة ستجد من يؤيدها، ومن يعارضها.
إذا بدأنا بالحديث عن الحريات السياسية، وهى عادة مطلب المعارضين والنخب السياسية وبعض الإعلاميين، ستجد من يتحدث عن أولوية الاقتصاد، وأن الناس تحتاج إلى وضع معيشى مقبول، أكثر من احتياجها إلى كلام السياسة، ولاسيما أن أهل السياسة فى مجتمعنا لا يمتلكون برنامجا اقتصاديا، فقط يتحدثون عن مطالب عريضة أقرب إلى الشعارات منها إلى البرامج التنفيذية. وإذا أوغلت فى الحديث عن أهمية الحريات السياسية للتنمية الاقتصادية، ستجد من يستدعى مثل «الصين» للتدليل على أن تلازم الأمرين ليس ضروريا.
إذا قلنا التنمية الاقتصادية أولا، ولاسيما أن السياسة لم تخلق للجائع كما يقال، حيث لابد من وضع اقتصادى للمواطن الذى يريد أن يكون له دور فى الحياة العامة. فالسياسة ليست حكرا على الساسة أو أهل الأحزاب، والمواطن المطحون عادة ما يكون فى الهامش، أو يُستدعى فى مواسم الانتخابات دون أن يكون له رأى فيما يجرى.
وأهل التدبر يقولون إن الحريات السياسية ينبغى أن ترافق التنمية الاقتصادية، لأنها تحافظ عليها، ويوجد السياق السياسى الذى يوفر لها الاستدامة، والنمو، ويحول دون المخاطر.
كلام معتاد ليس فيه جديد، سهل استدعائه فى كل حديث عن هذا الشأن.. لكنى أرفض كل هذه المنطلقات، وأرى أنها أحاديث نخبة ومثقفين لا تعنى المواطن العادى فى شىء.
الحديث الآن فى الأدبيات السياسية يدور حول شأن آخر لا يتصل بالكلام المتسع عن الحريات العامة، لكنه يذهب إلى حديث آخر عن مفهوم «المشاركة» الذى صار محور العمل التنموى.
المواطن ينبغى أن يشارك فى التنمية، وتحديث مجتمعه اقتصاديا، وهذا لب العمل السياسى. المشاركة ليست فى الانتخابات فقط، فهى للأسف أضعف صور المشاركة، ولكن المشاركة فى الحياة اليومية فى المحليات، والعمل الأهلى، والتطوعى.. فى اقتراح مشروعات عامة، فى تنفيذ هذه المشروعات، ومساءلة الجهاز الإدارى بشأنها.
المشاركة عنصر أساسى ومحورى كى يصبح المواطن مواطنا فاعلا، وليس مجرد كائن قانونى فى المجتمع.. المشاركة تعطى معنى للعمل، ويشعر المواطن بأن المشروعات العامة «أصول» يمتلكها ويصونها.. المشاركة تجعل هناك تواصلا أفضل بين المواطن ومجتمعه المحلى، وهو أفضل عامل لإقرار «الأمن» فى المجتمع، لأن المواطن سوف يكون هو الطرف الأساسى للحفاظ على أمن المجتمع.
الدول التى لها تجارب رائدة فى هذا المجال مثل الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل وغيرها جعلت المشاركة العامة اليومية أساسا لتقدمها، وبالتالى فإنه ينبغى أن نتجه بالحوار ليس لكلام الثمانينيات والتسعينيات الذى لم يستفد منه المجتمع يوما على غرار نقاطع أم نشارك، ولكن الحديث الأفضل اليوم هو ينبغى أن نطالب جميعا بالمشاركة ليس فقط فى صندوق الانتخاب، ولكن – وهذا الأهم ــ فى الحياة اليومية، بحيث يشعر المواطن بأن له دورا فى المجتمع، وليس متلقيا سلبيا أو مهمشا فى زوايا النسيان.
هذه مسئولية كل الأطراف، وبالأخص صناع السياسات العامة، حتى يكون المواطن حاضرا.