نما إلى علمى ليلة أمس أن العالم يحتفل يوم الخامس عشر من مايو بعيد البيتزا. لست أخجل من الاعتراف بأننى قضيت ساعة أو أكثر من الليل أجتر سعادة فائقة يعود تاريخها إلى ما قبل منتصف القرن الماضى ومصدرها مطعم صغير ما زلت أذكر انبهارى بأغطية موائده ذات المربعات الحمراء والبيضاء. أتحدث عن سنوات الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضى وعن محل صغير يخبز ويبيع البيتزا على مدخل سينما ريفولى ويملكه الفنان القدير رشدى أباظة، وأظن، إذا لم تخنى الذاكرة، كانت تديره والدته الإيطالية الأصل والجنسية.
•••
أذكر أيضًا أننى عدت فتعارفنا، البيتزا وأنا، مرة أخرى فى مدينة طرابلس الغرب خلال رحلة فريق الجوالة فى كلية التجارة إلى المملكة الليبية. هناك وباعتبارى ذواقة الفريق الأشهر والمسئول عن إطعام الفريق ورفاهته توسطت إلى قوى ذات نفوذ لتخصيص ليلة ساهرة فى الفندق الأكبر والأجمل على عشاء من البيتزا وصوانى «لازانيا» المصنوعة من رقائق العجين الأخضر والمحشوة بالعصاج. للتوضيح يجب أن أشيد بالطاهى الإيطالى الذى استحق انبهار الفريق وتصفيقه أمام ضيوف المطعم الآخرين وكلهم من الإيطاليين المقيمين فى طرابلس.
• • •
عدت فالتقيت بالبيتزا، هذه المرة، فى إيطاليا وطنها الأصلى بعد عامين من الغربة قضيتهما بين الهند والصين. قام بتدبير هذا اللقاء نبيل العربى الشاب الخلوق الذى سبقنى للعمل بالسفارة المصرية فى روما بعامين على الأقل. وهو الذى دبر عديد لقاءات التعارف مع شخصيات إيطالية وزملاء فى السلك الدبلوماسى. كان طلبى متواضعًا. طلبت من نبيل أن يدعونى لمحل يخبز البيتزا الطليانى الحقيقية، وأقصد بالحقيقية تلك التى يقبل عليها الإيطاليون أصحاب الذوق الرفيع فى اختيار وتناول العجائن. لا أريدها سياحية ولا «مستغربة». قلت له إننى عشت سنوات أحلم بهذا اليوم، لذلك عليه أن يدبر المكان والأجواء المناسبة لتحقيق هذا الحلم.
• • •
أخذنا إلى منطقة فى وسط روما. ترجلنا على الأقدام ومشينا فى شوارع تزدحم بالسياح وتعج بأصوات الإيطاليين، ومن الشوارع دخلنا فى حوارى ومن الحوارى دلفنا إلى أزقة تسحبنا كالحالمين رائحة لم أشم مثلها فى الروعة والشوق، ومن حولنا يشدو بالغناء على أنغام جيتارات محمولة المهللون من الشباب والأطفال. لم يعد نبيل يقودنا، قادتنا الطوابير والرائحة النفاذة ومنظر صوانى البيتزا محمولة على أعناق نوادل متجهين بها إلى موائد خشبية مرصوصة على جانبى الزقاق. ليلتها أكلت بيتزا لم أذق مثلها ولا بعدها فى قارات العالم الخمسة. صارت هى معيارى فى قياس «طعامة» أى بيتزا أخرى فى أى مكان وزمان. أذكر أيضًا أنه خلال العودة وعلى بعد زقاق أو زقاقين توقفنا أمام نافورة «دى تريفى»، النافورة الأشهر فى روما.
• • •
هناك زعم سائد بأن مصر الفرعونية أحد بلاد منشأ البيتزا، ففى هذا الزعم أن الحضارات القديمة جميعها تشترك فى هذا الشرف باعتبار أهمية الخبز للاحتفالات الدينية وإطعام الفقراء. قيل أيضًا أن تاريخ الحضارات القديمة شاهد على تلاصق مهنتين فى كل المدن وهما مهنة الخباز ومهنة صانع البيرة، وأن البيتزا جاءت لتحلى وجه الخبز وتسهل بلعه وهضمه.
• • •
ارتبطنا عائليًا فى الأمريكتين. كبر الطفلان وككل الأطفال فى تلك البلاد وقعا فى حب البيتزا. كنا نسكن فى حى لا يبعد كثيرًا عن الحى العربى فى بيونس آيرس. هناك وفى تلك السنين كانت المنافسة شديدة بين البيتزا و«الامبانادا»، هذه الفطيرة الساحرة التى اخترعها أهل إسبانيا من السلالات العربية وهاجرت مع المهاجرين وجيوش الفتح الإسبانية والبرتغالية إلى العالم الجديد. كنا الكبار فى عائلتى الصغيرة نفضلها على البيتزا المحلية بينما ظل سحر البيتزا يلاحق الطفلين. أساء الأرجنتينيون الجدد كما فعل الأمريكيون والكنديون إلى سمعة البيتزا بما فعلوه بها واعتبروه تطويرا وتجديدا. وقعت الصدمة ذات يوم عدت فيه إلى البيت لأجد الطفلين يلتهمان شيئا ما غريب المنظر والرائحة. اقتربت لأكتشف أنهما يأكلان بسعادة بالغة بيتزا مزودة بالسبانخ المطبوخة وشرائح اللحم المقلى.
• • •
تكررت الصدمة فى مونتريال. فى الحالتين ألقيت بالمسئولية على بائع البيتزا الذى سمح لأولادى أو شجعهما على تناول هذه «الخلطبيسة»، وهو الاسم الذى أطلقه عليها زائر نزل فى ضيافتنا. إذ تصادف أننا اخترنا للسكن شقة فى عمارة تطل على حرم الجامعة التى قبلتنى طالبا فى قسم الدراسات العليا بكلية العلوم السياسية، وكان بمدخل العمارة الأنيقة مقهى صغير جدًا يخدم على سكان العمارة بالمشروبات والمأكولات الخفيفة ومنها بيتزا جاهزة الصنع ولا تمت بصلة إلى البيتزا الإيطالية إلا بالاسم. كان أسفنا، أمهم وأنا، عظيما.
• • •
عدنا بعد رحلة اغتراب طويلة أخذتنا من أقصى الشرق فى الصين إلى أقصى الغرب فى شيلى وكندا مرورًا بأوروبا، عدنا لنجد أن شركات إنتاج الأغذية المعلبة أو جاهزة الصنع قد سبقتنا إلى القاهرة. كانت سعادتنا بالغة حين اكتشفنا أن مطاعم فى الحى الذى اخترناه لإقامة طويلة الأمد تخبز البيتزا وهى مثل غيرها تسلمها لزبائنها فى مواقع سكناهم. فضلها أولادى وأولادهم على الشركات التى تتعامل فى البيتزا جاهزة الصنع.
• • •
لم أسأل إن كان محل رشدى أباظة ما يزال قائما، ولم أجد من أسأله إن كان مخبز البيتزا المتواضع والمجاور لنافورة دى تريفى ما يزال يقدم البيتزا وبخاصة الذائعة الصيت والمسماة «مارجريتا»، على اسم ملكة إيطاليا التى أكلتها فى أحد مطاعم الساحل فى مدينة نابولى قرب نهاية القرن التاسع عشر وفضلتها على كل ما عداها من أنواع البيتزا، فسميت باسمها. لم أسأل وفى الواقع لم أجد من أسأله، أو ربما غلبنى حياء من بلغ من العمر ما بلغت فتجنبت السؤال.