أشياء عاشت معنا ثم غابت وأشياء تستعد لتغيب - جميل مطر - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 10:19 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما تقييمك لمجموعة المنتخب المصري في كأس العالم برفقة بلجيكا وإيران ونيوزيلندا؟

أشياء عاشت معنا ثم غابت وأشياء تستعد لتغيب

نشر فى : الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 - 6:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 - 6:40 م

أجابت: «صحيح تمامًا أنا كان عندى «الهون» يدًا وقاعدة من النحاس الخالص، وفى قائمة مفروشات زواجى كان موقعه فى المقدمة. عاش معى خمسين سنة، وأظن أنه لسه موجود فى مطبخ من مطابخ العائلة". كان سؤالى لشقيقتى الصغرى بين أسئلة أخرى عن أشيائنا التى رافقت مسيراتنا ثم غابت أو هى تستعد لتغيب. أظن أنه لم يوجد فى مطبخنا أو أى مطبخ على ما أذكر شيئًا أثقل وزنا ولا أغلى ثمنًا ولا مكروهًا عند كل الجيران، مثل «الهون».

• • •

كان فى مطبخ بيتنا الكائن بشارع سامى القريب من نواصى التقاء شارعى نوبار وخيرت دولاب سحرى سمعتهم يطلقون عليه اسم «النملية». كنت طفلًا يبدأ فضوله بأسئلة مستحيلة فتأتيه إجابات مدهشة. أذكر صباح يوم خصصوه لتنظيف المطبخ، رأيته على اتساعه مزدحمًا بلفائف وصحون مكشوفة وأخرى مغطاة ومعلبات كرتونية وزجاجية ونحاسية من كل حجم ونوع. أشياء عديدة وكأن أهل البيت اشتروا لتوهم محتويات محل جزارة ومحل بقالة ومحل حلوى ومحل عطارة وبهارات فى آن واحدة. سألت السؤال المستحيل فكانت الإجابة بنعم.. كلامك صحيح، ونستعد الآن لحشرها جميعها فى النملية.

سمعت فى النملية شعرًا. قيل فى الانبهار بها أنها إحدى عجائب فنون النجارة المصرية. شبابيكها الصغيرة تسمح بمرور الهواء اللازم لتهوية المأكولات وتمنع دخول الحشرات إلا أصغرها حجمًا وأقلها ضررًا، وهو النمل، حتى إنها سميت باسمه. يقال إنه لوجود النملية قطعة أساسية تأجل طويلًا تجهيز العرائس بثلاجات كهربية. جدير بالذكر أننى كنت أنا نفسى شاهدًا على اكتشاف لوح الثلج أو نصفه أو ربعه ينقله شاب فى مثل عمرى من عربة يقودها حمار ويصعد به، أقصد بالثلج، إلى حيث كانت شقتنا فى أعلى طابق.

• • •

كثيرًا ما فتحت الباب لمن راح يدق بإلحاح مؤدب لأجد أمامى السباك يطلب منى إبلاغ «الست هانم» أن السباك موجود بالعمارة اليوم لمن يحتاجه من السكان، وعادة ما كان يجد فعلًا من احتاجه. ففى كل بيت أكثر من وابور بريموس مواسيره محتاجة لنفخ، وأكتر من حنفية بلت جلدتها، التى هى سبب وجودها فبدونها صحيحة وثابتة فى مكانها لا تعمل الحنفية.

إن نسيت فلن أنسى رغبتى المتجددة دائمًا أن تطول إقامتى بالحمام ومعى الصوت الهادر الصادر عن البريموس. مرت سنوات قبل أن تصارحنى أمى بأنها كانت ترسل من يدق على باب الحمام ولا يتوقف عن الدق حتى يسمع صوتى. كانت تعرف أن البريموس يصدر غازًا مخدرًا يرتاح إليه مستخدم الوابور ويستحسنه. لم تكن تتركنى أرتاح مع هذا الغاز. تظل قريبة من الحمام تريد هى أو من تكلفه التأكد من سلامة أنفاسى وحواسى.

• • •

البريموس والكولينوس والتروماى والثورنيكروفت والكرافاتة والروبابيكيا، كلها ومئات من نوعها كانت كلمات نستخدمها فى خطابنا اليومى العادى. تركت كل هذا ورائى فى أول رحلة عمل لى بالخارج. كانت نيودلهى المحطة الأولى فى هذه الرحلة. انتظرتنى فى الشقة المفروشة مفاجآت. وجدت مع المفروشات البسيطة ثلاثة رجال مكلفين بالخدمة، أحدهم يكنس ويمسح، ولا يفعل شيئًا آخرًا. الثانى يغسل ويكوى ويرتب الفراش ولا يفعل شيئًا آخرًا. الثالث يعد الخضراوات للطبخ ويطبخ ولا يفعل شيئًا آخر.

كان يومًا مثيرًا، التقيت مقشة الأرز، وهى التى لا يكنس بغيرها «السويبر»، أقصد الكناس. والتقيت الهون وإيده، وكلاهما من الوزن الثقيل. التقيت أيضًا الفرن، لكنه ليس كفرن أمى الذى كان يستضيف بداخله اثنين من البريموس بل كفرن خالتى الواقع فى حوش بيتها الواسع، وكان يعمل بالخشب ومنتجات إيفورية أخرى.

خرجت واخترت وسط المدينة ساحة تعارف. هناك شاهدت كل أنواع البشر. رجل يحملق فى الشمس، سألت وجاءت الإجابة باردة وبالهدوء الممكن، نعم يحملق فى الشمس من الشروق وحتى الغروب. قابلت آخرًا من نفس ملته يمارس الصلاة نفسها على الرصيف الموصل إلى بيتى فى الحى الذى أقيم فيه. قابلت رجالًا حالقى الشعر، كل الشعر، يرتدون أردية صفراء ويحملون أوعية فخارية يشحذون بها عملة معدنية أو لقمة عيش. التقيت وجهًا لوجه بمجموعة خارجة لتوها من قاعات العمل، سمعت شذرات من حديث دائر بين عدد منهم. توقفت أمامهم لأستمع إلى أحلى إلقاء بلغة إنجليزية رائعة، لم يخل طبعا من لكنة هندية لا يلمحها إلا الباحث المدقق.

كان واجبا أن أنضم مع زملاء إلى حفل استقبال كبير يقيمه فى الهواء الطلق رجل أعمال معروف. شجعنى الزملاء فذهبت. هناك، واليوم من أيام أواخر الصيف الهندى الشهير، رحت أشكو فى الحفل الحر والعرق، سحبنى زميل من يدى ومشينا معًا فى اتجاه مروحة كهربية لم أقابل فى حجمها مروحة أخرى فى حياتى، تدور مصدرة صوتًا أشبه بصوت محركات الطائرات العملاقة، وأمامها على مائدة مرتفعة استلقى لوحان من الثلج، ومن حولهما اجتمع الضيوف فى مجموعات صغيرة مستمتعين بذرات الثلج الخفيفة.

• • •

عدت إلى الهند بعد عشرين سنة عضوًا فى مجموعة صحفية من الأهرام تمثل مركز الدراسات ويقودنا هيكل بصفته رئيسًا أعلى للمركز. دعتنا السيد إنديرا للالتقاء بها على جانب مؤتمر شعبى تتحدث فيه إلى حوالى مليون مواطن. جلسنا مثلها وإلى جانبها على الأرض نستمع إلى خطاب انتخابى بلغة هجين، أقصد الهندية مختلطة بالإنجليزية.

عن لى أن أسأل المرافق الهندى وكان من أشهر الدبلوماسيين الهنود، سألته عن التقدم الذى أحرزته حكومات حزب الكونجرس على صعيد وقف ممارسات التمييز الشرير بين الهنود على أساس الدور المقرر للمواطن فى المجتمع قبل أن يولد. أجاب بأنهم يحاولون إجبار الوزير المنتمى بالمولد لطبقة «السويبيز»، أقصد الكناسين، على الجلوس مع بقية الوزراء وبعضهم من طبقة «البراهمة»، وأكثر هؤلاء بالمناسبة هم من عائلات تمارس الطبخ كمهنة لا يمارسها إلا «المقدسون».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي