تجربة أحمد سعيد - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 8 نوفمبر 2024 7:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تجربة أحمد سعيد

نشر فى : الأربعاء 6 يونيو 2018 - 8:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 6 يونيو 2018 - 8:40 م

لا يولد شىء من فراغ.
ولا يتولد نجاح عن عشوائية.
كانت تجربته ملهمة بقدر وضوح أهدافها وارتفاع سقف حريتها.
فى (٢٥) فبراير (١٩٦٥) قال «عبدالناصر» فى خطاب مفتوح إنه لا يوافق «أحمد سعيد» فى أمور كثيرة يتحدث فيها، لكنه يمتنع عن أى تدخل، فالتدخل «بيموت صوت العرب وبيضيع قيمة صوت العرب».
«صوت العرب لا يسأل عما يقول، يسأل فقط عن نتائج ما يقول».
حتى إعلام التعبئة يحتاج إلى الحرية.
الإعلام يفقد تأثيره عندما يخسر حريته.
فى مذكراته غير المنشورة يروى قصة رقيب منع بجهل وتعسف إذاعة أغنية «ولد الهدى» لـ«أم كلثوم» من شعر «أحمد شوقى» بحجة أن الثورة قد ألغت الملكية وألقاب الأمراء فى اعتراض على عبارة وردت فى القصيدة المغناة.
كما أن نفس الرقيب طلب من الشيخ «طه الفشنى» الامتناع عن قراءة آيات من سورة الأحزاب خشية أن تمس الجيش!
كان طلبه الوحيد أن يتصرف بحرية بعيدا عن سطوة الرقابة حتى تنجح «صوت العرب» فى مهمتها.
وفق مذكراته فإنه اقترح على «جمال عبدالناصر»، فى حضور «فتحى الديب» صاحب فكرة إنشاء «صوت العرب» إذاعة آراء المعارضة العربية للسياسات المصرية فى ذلك الوقت من عام (١٩٥٤).
كانت هناك ــ أثناء أزمة مارس ــ تظاهرات فى أكثر من دولة عربية تصدرها زعماء وقادة نافذون ضد ما يحدث فى مصر مثل الإمام «عبدالرحمن المهدى» وابنيه «الصديق» و«الصادق» و«محمد أحمد محجوب» رئيس الوزراء السودانى الأشهر فيما بعد و«ميشيل عفلق» و«أكرم الحورانى» و«صلاح بيطار» مؤسسى حزب «البعث العربى الاشتراكى» فى سوريا و«بيير الجميل» مؤسس حزب «الكتائب» و«إميل إدة» و«ريمون إدة» من أبرز السياسيين فى لبنان.
لم يمانع «عبدالناصر» فى ذلك الاقتراح المثير بتوقيته شرط أن يتوافق هذا الأسلوب مع المستهدف منه.
«صندوق أحمد سعيد على رأى إخواننا فى اليمن اتفتح خلاص ومحدش يقدر يقفله بالضبة والمفتاح» ــ هكذا أخبره رجل «يوليو» القوى يومها.
مدرسته استندت إلى مشروع واضح وقضية محددة وسقف حرية مفتوح للإبداع والابتكار ودراسات فى علم النفس وفنون الأداء وإيمان المذيعين أنفسهم بما يقولون.
أنفقت بريطانيا (٢٥) مليون جنيه استرلينى على دعاياتها أثناء حرب السويس عام (١٩٥٦)، لكنها أخفقت بقسوة أمام الإعلام المصرى ــ كما سجل مؤسس الدولة العبرية «ديفيد بن جوريون».
بتوصيف شاع وقتها: «لا يوجد مقهى واحد فى العالم العربى لا يفتح أجهزة الراديو على صوت العرب».
«لعل قصة صوت العرب مع الجزائر أول وآخر قصة لإذاعة على بعد آلاف الأميال، ولا يتجاوز إرسالها اليومى تسعين دقيقة تشهد جدرانها ثورة وهى مجرد فكرة» ــ كما كتب فى مذكراته.
ظاهرته لا مثيل لها فى التاريخ العربى الحديث.
هو أبرز أصوات الاستقلال الوطنى فى العالم العربى من أوائل الخمسينيات حتى نكسة (١٩٦٧).
خاض معركة إسقاط حلف بغداد عام (١٩٥٥) الذى استهدف ملء الفراغ فى المنطقة بعد تراجع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.
وخاض حرب السويس عام (١٩٥٦) حاشدا العالم العربى وراء مصر المقاتلة.
ارتفع صوته فى عام (١٩٥٨) بأحلام الوحدة المصرية ــ السورية والتطلع إلى دولة عربية واحدة.
طوال سنوات التحدى حتى انكسار هزيمة (١٩٦٧) تصدر كل معركة من المشرق العربى فى العراق وسوريا ولبنان إلى مغربه فى الجزائر والمغرب وتونس إلى الخليج العربى واليمن.
الثورة الجزائرية درة التاج فى معاركه كلها.
لا يمكن كتابة تاريخ ثورة المليون ونصف المليون شهيد دون التوقف عند دوره فيها ــ وقد كان مركزيا بجوار زعيمها وصديقه الحميم «أحمد بن بيلا».
كتب شهادته مستعينا بأرشيف «صوت العرب» عن تجربة تحرير الجزائر، كما كتب شهادات أخرى فى أجزاء مستقلة عن أيام الوحدة المصرية ــ السورية وحرب اليمن وما كان يجرى فى العالم العربى من انتفاضات وثورات وحروب.
ما هو مكتوب بخط يده أقرب إلى مسودات شبه نهائية تعطى فكرة متكاملة لأول مرة عن أسرار وخفايا «صندوق أحمد سعيد» ــ كما كان يطلق على أجهزة الراديو فى ذلك الوقت منسوبة إلى إذاعة «صوت العرب» دون غيرها من الإذاعات، وإلى اسمه وحده.
فى دراسته اللافتة لما طرأ على المجتمع الجزائرى من تحولات فى القيم والسلوك بأثر سنوات الثورة أشار المفكر الفرنسى «فرانس فانون» إلى دور «صوت العرب» حيث كان الجزائرى العادى يشترى جهاز الراديو ليستمع إلى صوت «أحمد سعيد» وهو يردد كلمة «الاستقلال».
فى عام (١٩٦٧) حمل بما لا يحتمل من مسئولية النكسة.
كانت الهزيمة فادحة والبيانات العسكرية كاذبة.
لم يكن هو الذى كتبها، فقد تلقاها من القيادة العسكرية فى ذلك الوقت.
ولم يكن بوسعه تجاهلها شأن أى محطات تلفزيونية أو إذاعية أخرى.
لكن كل السهام صوبت إليه وحده.
فى سبتمبر (١٩٦٧) خرج من الإذاعة التى أسسها عام (١٩٥٣) وتوارى إلى الظل. 
وخلفه على مقعده «محمد عروق».
لم يكن الهدف تغيير الرجال بقدر تغيير الدفة من التعبئة إلى التوعية، فقد اختلفت طبيعة الظروف والأحوال.
لم تكن تلك مهمة خلفه سهلة فقد تقوضت صدقية أكثر الإذاعات تأثيرا وشعبية فيما تبثه من بيانات.
باليقين فإنها معذورة أو مظلومة ــ كما قال «عروق» ــ حيث كانت تذيع البيانات العسكرية التى ترد إليها، ولا تتحمل أى مسئولية عنها.
«أوقفت إذاعة البيانات العسكرية المزيفة عصر ٥ يونيو وكان التحدى أمامى هو كيف نعلن الهزيمة وندعو الناس إلى التماسك».
«لم أصنع الهزيمة وبيانات النكسة لم تكن من تأليفى».
«هل كان مطلوبا أن أذيع البيان الذى يعجبنى وأحجب سواه؟!».
«الجهلاء هم الذين يتصورون أن الإعلامى يمكن أن يجتهد فى حالة الحرب».
هكذا كتب «أحمد سعيد» فى مذكراته.
عند انقلاب السياسات على عصر «جمال عبدالناصر» استهدفت تجربة «صوت العرب» بضراوة.
شاعت روح السخرية من اللحن المميز الذى ارتبطت به «أمجاد يا عرب أمجاد.. فى بلدنا كرام أسياد».
لم تستهدف السخرية الرجل وتجربته بقدر ما استهدفت الأحلام التى انكسرت.
«أعداء الخارج والداخل انتقموا من عبدالناصر فى صوت العرب» ــ هكذا كتب بخط يده.
وفق ما قاله لى مؤسس إذاعة «صوت العرب»، فإن إعلام التعبئة، الذى عبر عنه أكثر من غيره وكان نجاحه أمثولة تدرس، انتهى زمنه، فلا توجد قضية تلهم ولا مشروع يقود، فضلا عن أن حقائق العصر تستدعى التعدد حتى لو توافرت القضية ووجد المشروع.
من لا يدرك اختلاف العصور كمن يعاند الحقائق.
شغل تأثيره مراكز أبحاث وأجهزة استخبارات على ما تدل الوثائق الغربية المتاحة الآن.
أثناء حرب السويس قصفت الطائرات محطات إرسال «صوت العرب» فى «أبى زعبل» شمال شرق القاهرة لإسكاتها.
حين فشلت الغارات فى إسكات صوته، حاولت غارات من نوع آخر تشويه صورته.
غير أن التاريخ سوف يتوقف طويلا أمام تجربته وينصف أهم إعلامى عربى على وجه الإطلاق وبلا منافس فى القرن العشرين.