تحول النظام الدولى الذى أنشئ فى أعقاب الحرب العالمية الثانية لضمان الاستقرار والأمن وسد الطريق أمام قيام حرب عالمية ثالثة تحول إلى «نظام» مترهل ورخو يعكس غرور الغرب وعناده وفرضه للمعايير التى يراها تحقق مصالحه، حتى وإن أدت إلى إلحاق الضرر البليغ بالآخرين.
وفلسفة النظام الدولى تقوم على وجود قواعد قانونية تسمو على سلطان الدولة وتتسم بالتجرد والعمومية والحيادية، وتكمن قوة النظام فى تطبيق تلك القواعد على أعضاء النظام دون تمييز، وحينما كان النظام الدولى ثنائى القطبية أتاح للدول النامية قدرا كبيرا من المرونة فى التفاعلات الدولية دون حرج ودون إجبار، بيد أن تحول النظام إلى سيطرة شبه مطلقة للغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) أفقد النظام هويته من دولى إلى أوروبى، تطبق فيه معايير أوروبية الصنع، متحيزة الاتجاه ظالمة وغاشمة. بدأ النظام الأوروبى النكهة، أمريكى المذاق، فى خرق القواعد الدولية التى أقيم عليها، فقد تم غزو أفغانستان والعراق بحجج ليست فقط واهية ولكنها غير حقيقية لتبرير الغزو والاحتلال لأراضى الغير، وهو ما نهى عنه ميثاق الأمم المتحدة الذى أقامته ذات الدول التى قامت بخرقه.
بيد أن حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة توطئة لتكرارها فى الضفة الغربية والقدس بمساعدة وتأييد ومشاركة الغرب بالقوات الخاصة والسلاح والذخيرة والمال والإعلام، يكشف ازدواج المعايير الذى يسم ويشكل جوهر السياسات الخارجية الغربية، وقد فجرت مظاهرات واعتصامات الطلاب والشباب فى العالم مناصرة لوقف إطلاق النار ونصرة للفلسطينيين والفلسطينيات المقهورين وانتقادا للجرائم الإسرائيلية، ترهل النظام الدولى وهشاشته، فقد أوضحت الإجراءات القسرية لإنهاء الاعتصامات، وتشديد مفهوم معاداة السامية ليشمل مجرد انتقاد إسرائيل، من يتحكم فى النظام الدولى ومن يسوقه، وكيف تحولت المؤسسات التشريعية والتنفيذية فى الغرب إلى نمور من ورق أمام تسلط ونفوذ القوى الصهيونية سواء الإسرائيلية أو المسيحية وجماعات الضغط «اليهودية» والتى تؤمن بأن لإسرائيل الحق كل الحق فى اقتلاع الشعب الفلسطينى من أراضيه وقيام الإسرائيليين باستعمارها دون الإشارة إلى أن إسرائيل ما هى إلا سلطة احتلال طبقا للقرارات الدولية ولا يحق لها، من ثم تعديل وضع الأراضى المحتلة.
الغرب يدين روسيا ويعاقبها ويفرض الحصار عليها ويستولى على ودائعها لديه لأنها قامت بالاعتداء على أوكرانيا حليفة الغرب وصنيعته، ولا يدين حرب الإبادة والتجويع والتهجير القسرى لسكان غزة والتى تقوم بها إسرائيل، على العكس تماما، يبارك الغرب الحرب الإسرائيلية غير العادلة وغير الشرعية ضد العزل حتى المعارضين لحماس، حرب تكشف مدى ترهل النظام الدولى أو ما بقى منه، واتجاهه الأكيد إلى السقوط المدوى كالذى حدث لنظام عصبة الأمم قبل نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939.
• • •
إن الموقف المشين للغرب فى مساندة ومشاركة إسرائيل فى حربها الشرسة ضد المدنيات والمدنيين فى غزة وموقفهم الرافض لقرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر بالقبض على نتنياهو ووزير دفاع إسرائيل واتفاق أعضاء الكونجرس الأمريكى من الحزبين الجمهورى والديمقراطى مع وزارة الخارجية بقيادة الوزير بلينكن – والذى ذكر أمام مجلس الحرب الإسرائيلى أنه يأتى إلى إسرائيل ليس فقط كوزير خارجية الولايات المتحدة ولكن أيضا بصفته – يهوديا – على البحث فى الوسائل الملائمة لتوقيع أقصى الجزاءات ضد المحكمة الجنائية الدولية، وهى أحد الأفرع الرئيسية للأمم المتحدة التى شلتها الولايات المتحدة باستخدام الفيتو، نظرا لاتجاهها إلى إصدار أمر توقيف لنتنياهو ووزير دفاعه يكشف بوضوح مدى الوهن الذى أصاب النظام الدولى وكيف تحولت قواعده من عامة ومجردة ومحايدة إلى رخوة وهشة ومبتذلة، ومما يندى له الجبين أن الغرب ذاته رحب بإصدار ذات المحكمة مذكرة توقيف ضد الرئيس الروسى بوتين لقيام روسيا بنقل أطفال من أوكرانيا إلى روسيا (وليس قتلهم كما تفعل إسرائيل ضد نساء وأطفال فلسطين)، والواقع أنه قبل إصدار أمر التوقيف بشأن نتنياهو ووزير دفاع إسرائيل وعدد من قيادات حماس، قام أعضاء من الكونجرس بإرسال خطاب وعيد وتهديد للمدعى العام للمحكمة بألا يجرؤ بالمساس بقيادات إسرائيل وإلا تعرض وأسرته لشتى أنواع العقاب، وحينما صدر أمر التوقيف هاج الغرب وماج من واشنطن إلى لندن إلى باريس وروما وغيرها للتنديد بالمحكمة وإجراءاتها.
العجيب فى موقف الغرب ليس فى سرد الجرائم الإسرائيلية من قتل وإبادة وتجويع وتهجير لسكان غزة فى أراضيهم المحتلة، والغرب لم يذكر ذلك ولا يهمه، إنه يستنكر أن تساوى المحكمة بين المجرمين الإسرائيليين «بمجرمى» حماس، بعبارة أخرى، الأخيرون مجرمون أما الأولون فهم مكرمون مسنودون!
• • •
منذ 1991 وهو تاريخ سقوط الاتحاد السوفيتى، وتحول النظام الدولى إلى نظام غربى صرف وجلوس الولايات المتحدة على عرشه، سقطت القواعد التى أنشئ عليها، وانهارت القيم التى سعى إليها، وتمحور اليوم حول إسرائيل، التى لم تلتزم بأية قواعد أو أسس لهذا النظام بل قام مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة بتمزيق ميثاقها علنا أمام مندوبى 192 دولة أعضائها، وكأنه قد تم اختزال العالم بدوله فى دولة إسرائيل واختصار شعوبه فى شعب إسرائيل، وقد ترك الغرب قضايا العالم والتى يتغنى بها كقضية المناخ والتى تحتاج سنويا إلى ما يربو إلى 300 مليار دولار عجز عن تعبئة موارد كافية لمواجهة سوء التغيرات المناخية، كما أقلع عن مواجهة نقص الغذاء فى الوقت الذى يعانى منه أكثر من 800 مليون إنسان من سوء تغذية، كما تناسى العجز الدولى فى المياة اللازمة لإعاشة الإنسان والحيوان والنبات، وصار أمن إسرائيل وتوسعها وتحولها من دولة محتلة إلى إسرائيل الكبرى الهدف الأسمى لما بقى من النظام الدولى الغربى الرخو والهزيل، والذى تعيش قياداته وينشغل سياسيوه بمدى رضاء القوى المسيحية الصهيونية والإسرائيلية و«اليهودية» عنهم وعن قراراتهم التى تثلج قلب إسرائيل ولكنها تهدم النظام الدولى.
السؤال المنطقى الذى يطرحه حال الترهل للنظام الدولى، كيف يمكن إعادة بناء نظام دولى جديد يعكس التطورات الحديثة للعالم خصوصا وأنه قد تم دمج دول المحور فى جسد النظام الراهن، فألمانيا وإيطاليا تعدان من قيادات الاتحاد الأوروبى والعالم، واليابان تحول إلى أكبر قوة اقتصادية تالية للولايات المتحدة والصين، وعلى قيد أنملة من بناء جيش وطنى وصناعة سلاح كان قد منعها منه دستور 1949 الذى فرضته الولايات المتحدة عليه فى أعقاب الحرب العالمية الثانية؟ كيف يمكن الاستجابة لحالة الضجر من الابتزاز الصهيونى لدول العالم فى نظام دولى مريض مرضا عضالا؟
إن إقالة النظام الدولى الراهن من عثرته صعب المنال، والأمر يتطلب إحلاله بنظام دولى جديد، وهذا ما درج عليه التطور الدولى منذ منتصف القرن السابع عشر، حينما تنهار قواعد النظام الدولى وينحدر إلى مستوى اللانظام ويصاب بالشلل، ويتمركز حول دولة توسعية واحدة، وحينما تبدأ موازين القوى فى التغير، لابد من الانتقال إلى نظام دولى جديد يعكس توزان القوى المستجد والهوية الأوسع والأهداف الأشمل، ولن تستطيع الصين وحدها أو حتى الصين وروسيا بناء هذا النظام، وإنما يتطلب ذلك تكتيل قوى النظم الإقليمية الفرعية كالنظام الإقليمى العربى وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وتوافقها مع الصين وروسيا ومن يريد من الغرب بغية تحديد هيكل النظام الجديد، وفلسفته، وأهدافه، وقيادته، وهويته، وإن لم يحدث ذلك، فإن الترهل الراهن الذى يصيب النظام الدولى الغربى سيدفع، لأسباب عديدة ومنها سيطرة المسيحية الصهيونية وإسرائيل عليه، الجميع إلى حافة الهاوية والتورط فى حرب عالمية تقضى على أمل الإنسان فى حياة آمنة وعادلة وبجودة أعلى.