لا غرو أن المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات الشبابية والطلابية التى عمت الجامعات الأمريكية والأوروبية فى نيويورك وبوسطن وكاليفورنيا وفلوريدا وتكساس وجورجيا وأوهايو وباريس ولندن وسيدنى وطوكيو وبرلين وروما بين عواصم عدة، والمطالبة بوقف إطلاق النار والمجازر الإسرائيلية والتجويع والتهجير القسرى للسكان فى غزة وإرهابهم فى الضفة الغربية، أثارت تساؤلات غير محدودة حول الأشخاص المشاركين فيها، ودوافعهم، وإلقاء القبض على العديد منهم، ومحاولة إسكاتهم، وفصلهم من الجامعات، وكان قد تزامن مع ذلك عقد جلسات استماع لرؤساء الجامعات الكبرى فى الكونجرس الأمريكى وفى الهيئات التشريعية فى دول أخرى لتوبيخهم وتهديدهم وإلقاء المواعظ الدينية عليهم، مما دفع برؤساء هارفارد وبنسلفانيا إلى الاستقالة، ودفع برئيسة كولومبيا إلى استدعاء البوليس إلى داخل الجامعة فى سوابق تاريخية غير دستورية ضد حرية التعبير السلمى عن الرأى. وعلى الرغم من مساس الحرب الروسية الأوكرانية بالمصالح الأمريكية إلا أن الشباب الأمريكى لم ينفعل بشأنها، فيصير السؤال لماذا هذه المشاركة الفعالة بخصوص حرب إسرائيل الظالمة ضد الشعب الفلسطينى فى غزة؟ خصوصا وأن الولايات المتحدة وأوروبا متورطة فى الحرب منذ بدايتها وحتى اليوم.
إن الفهم الدقيق لما يحدث فى العالم لابد أن يوضع فى إطاره الفكرى والسياسى الأشمل، حيث يفقد الشباب الثقة تماما فى مؤسسات النظم السياسية وليدة الحرب العالمية الثانية والتى يسيطر عليها ساسة أقل ما يقال عنهم بأنهم «فاسدون»، ليس ماليا وأخلاقيا فقط ولكن سياسيا أيضا، ولهذا يعزف الشباب عن المشاركة السياسية بأدواتها التقليدية، من أحزاب وحملات انتخابية وتصويت، وتحولت الأحزاب إلى هياكل Skeleton لا روح فيها ولا أمل منها، واتجهت النظم السياسية، من أجل البقاء، إلى الشيخوخة وعدم الفاعلية، وعرجت إلى التطرف اليمينى المقيت، وهو يمين عنصرى إقصائى، والأهم أن هذه النظم بمؤسساتها وشخوصها صارت رهينة لدى الصهيونية العالمية.
من المؤكد أن هناك انفصالا حادا بين الشباب ومؤسسات الحكم الغربية، ففى الوقت الذى يتفاعل فيه شباب العالم سواء فى الجامعات أو خارجها عبر وسائل التواصل الاجتماعى الفعالة، لا يزال الساسة يوظفون وسائل التواصل التقليدية دون أن يلتفت إليهم أحد، نحن إذا إزاء عالمين بينهم سياج، عالم تقليدى يتبارى فى خدمة جماعات الضغط وجماعات المصالح المتشابكة ماليا وإعلاميا والنافذة سياسيا، وعالم جديد كونى فى نظرته وممتد وراء الحدود التقليدية، وهو عالم يدافع عن القيم التى يتشدق بها العالم التقليدى ولا يعيرها اهتماما، قيم الحرية والعدالة واحترام البشر أيا كانوا وأينما وجدوا، وهكذا ضمت المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات اليهود ومن يدينون بالإسلام والمسيحية وحتى من لا دين لهم جنبا إلى جنب لنصرة سكان غزة المظلومين والمطالبة بحريتهم ووقف جريمة إبادتهم الجماعية التى تقوم بها إسرائيل بمباركة الغرب.
وقد رد «اليهود» المشاركون على الحملات التى تتهم المتظاهرين بمعاداة السامية بأنهم جزء من الحركة الدولية لتطبيق العدل والحرية، وأن «اليهود» لن يكونوا أحرارا إلا إذا كان الناس جميعا أحرارا، وأن حريتهم تتوقف على حرية فلسطين، ولم تقتصر الاحتجاجات والاعتصامات على الطلاب وحدهم بل شارك معهم بعض أساتذتهم الذين ألقى البوليس القبض عليهم. تحول مهم وإيجابى فى عالم صار فيه السياسيون أبواقا للصهيونية العالمية والتى تبتز الساسة وتستقطبهم وتوظفهم لخدمة المشروع الإسرائيلى التوسعى.
• • •
من المعلوم للكافة أن الحركة الصهيونية نشأت فى أوروبا فى نهاية القرن التاسع عشر، واستهدفت البحث عن حل لاضطهاد «اليهود» فى أوروبا لأسباب معلومة للكافة، وكان أن عقد المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة بال بسويسرا برئاسة تيودور هرتزل عام 1897 والذى قرر إنشاء دولة يهودية فى فلسطين تضم يهود العالم، ثم تبنت الكنيسة الإنجليكية الأمريكية الفكر الصهيونى على خلفية أن عودة المسيح تتطلب إنشاء وتقوية وتطوير إسرائيل، وتم توظيف مؤسسات المال والإعلام والمؤسسات الفاعلة فى اتخاذ القرار لدعم كل ما يتصل بإسرائيل، وأنشئت منظمات قوية جدا وعلى رأسها الإيباك لضمان ولاء الساسة وصناع القرار للمشروع الإسرائيلى الصهيونى من أجل بناء إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر.
ووظف الاثنان ــ الصهيونية العالمية والمسيحية الصهيونية ــ معاداة السامية كأداة ردع ضد كل من ينتقد إسرائيل، ويبدو أن ذلك لم يعد كافيا، ففى خضم الحركة الشبابية المعارضة لإسرائيل والصهيونية العالمية، وافق مجلس النواب الأمريكى على توسيع قانون معاداة السامية ليشمل انتقاد إسرائيل كدولة يهودية أو التعليق السلبى تجاه السلوك الإسرائيلى، وكان هذا التوسيع طرح لأول مرة عام 2016 من جانب التحالف الدولى لتذكر الهولوكوست، وهو تحالف أمريكى أوروبى، ويقضى هذا التوسيع للمفهوم فى أعقاب الاعتصامات التى انتقدت وبشدة حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيات والفلسطينيين، وبموجبه تقوم وزارة التعليم الأمريكية بزيادة جهود تعليم الطلاب الأمريكيين عن إسرائيل وأهميتها وحتمية مساندتها، كما يمكن أن يمتد إلى وقف المساعدات الفيدرالية المقدمة للجامعات التى لم تمتثل لهذا التوسيع، وقد رافق كل ذلك توظيف نصوص، يقال عنها توراتية، لدعم إسرائيل ومباركتها.
من المعلوم أيضا أن الولايات المتحدة تمر هذا العام بانتخابات رئاسية، وانتخابات أعضاء مجلس النواب (538) وثلث أعضاء مجلس الشيوخ، ولهذا يتبارى المرشحون المحتملون لمساندة إسرائيل والتواصل اليومى مع منظمة الإيباك التى قررت صراحة دراسة مواقف كل المرشحين المحتملين من مشروعات القوانين والمساعدات المالية والعسكرية التى تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل لمساندتها فى حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطينى، وتقرير من يستحق أن تقدم له المساعدات المالية والإعلامية فى حملاتهم الانتخابية وحشد المؤيدين لهم.
• • •
يضاف إلى ما سبق ويرتبط به قيام عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكى بتقديم خطاب تهديد صريح إلى المدعى العام لمحكمة العدل الدولية كريم خان، بأنه إذا صدر أى قرار/ حكم بتوقيف أو القبض على نتنياهو أو أى عضو فى حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة على خلفية حرب الإبادة الجماعية التى تشنها إسرائيل على سكان غزة، فإنه سيتعرض وأسرته لعقوبات حادة تفرضها عليهم الولايات المتحدة، ولا شك أن الموقعين على هذا الخطاب المفعم بالتهديد يبغون مساندة الإيباك لهم فى انتخابات نهاية العام.
ونظرا لهذا النفوذ غير المحدود للمنظمات الصهيونية على عملية صنع القرار المتعلق بالشرق الأوسط وإسرائيل، أثيرت تساؤلات مشروعة عن هوية صانعى القرار فى الولايات المتحدة بهذا الخصوص سواء فى وزارة الخارجية أو مجلس الأمن القومى أو المخابرات المركزية، وما إذا كانوا يحملون جنسية مزدوجة وتأثير ذلك على عملية صنع القرار، وهى عملية سابقة على اتخاذ القرار والذى يختص به الرئيس الأمريكى؟ تشابكات متعددة ومعقدة ولكنها تصب فى مصلحة إسرائيل ومشروعها التوسعى على حساب العرب حتى وإن أدى إلى الإضرار بمصالح الولايات المتحدة.
• • •
الصراع الراهن بين الشباب الكونى فى الغرب والصهيونية العالمية هو صراع غير متكافئ، لكنه مستمر ولن يتوقف، فلأول مرة يكشف الشباب، خصوصا «اليهود» منهم، زيف الادعاءات بمعاداة السامية وأنها مجرد ستار لإخفاء التحيز المطلق لإسرائيل، فالصهيونية العالمية تملك من أدوات القوة والنفوذ والتأثير ما لا يملكه الشباب، ومع ذلك فإنها بداية فاعلة لتحرر الغرب من النفوذ الصهيونى الذى بدأ فى أوروبا على استحياء ثم تطور ليصير عنصر ابتزاز دولى شديد الخطورة على المصالح الغربية فى العالم، ولهذا كان رد الفعل الإسرائيلى الصهيونى العنيف ضد انتقادات الطلاب والشباب للسلوك الإسرائيلى المقيت ضد سكان غزة ومطالبتهم جامعاتهم بمقاطعة الشركات الشريكة لهم فى الاستثمار فى منتجات تخدم إسرائيل. إنها صحوة شبابية لن تخبو ولن تهدأ إلا بالتحرر من نفوذ الصهيونية العالمية على مجريات الأمور فى العالم.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة