فى عملية اتخاذ القرار الاستراتيجى والسياسى الأعلى يتأنى صانع القرار إلى أن تتوافر المعلومات وتتضح الرؤى وتتم حسابات المصالح الوطنية والقومية والإقليمية وتحديد مدى توازن القوى الفردية والجماعية مع الأطراف المعادية، وفرز الأصدقاء والأعداء، والقدرة على التعبئة السياسية لأصحاب المصلحة المباشرين وما عداهم، ولعقود كان الاتفاق فى الوطن العربى على أن إسرائيل تمثل التهديد الرئيسى للأمن القومى العربى لاعتبارات معلومة للكافة، فهى الدولة النووية الوحيدة فى الشرق الأوسط، وهى الدولة التى تحتل فلسطين وأراضى سورية ولبنانية، ولم تنكر على الإطلاق أنها تسعى إلى إقامة إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، وهى الدولة الاستعمارية التى لم ولن تحدد أو ترسم حدودها السياسية مثل بقية دول العالم، ثم خطر دول الجوار سواء إيران التى تحتل جزر الإمارات العربية المتحدة، وتتوغل فى الوطن العربى، وإثيوبيا التى تهدد تدفق المياه إلى مصر والسودان، وكذلك تركيا التى تتضح نواياها التوسعية على حساب العرب سواء فى سوريا أو العراق أو ليبيا أو السودان وغيرها.
بيد أن هذا الإجماع الاستراتيجى الحيوى تعرض لانشقاق خطير، حينما يسرت الولايات المتحدة سبيل التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية ذات الوزن المعتبر فى الوطن العربى، وتحاول خلق السبيل للتطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وقد أدى ذلك، بلا شك، إلى تغيير نظرة تلك الدول إلى إسرائيل من المصدر الرئيسى لتهديد الأمن القومى العربى إلى شريك استراتيجى فى مواجهة العدو المحتمل، إيران. بيد أن هناك عدة حقائق قد ظهرت بوضوح تام تدعو الدول العربية كافة إلى إعادة النظر تجاه الخطر الإسرائيلى الصهيونى المحدق والجلى بما يدفعنا إلى النظر بتأمل وتدقيق إلى ما تشكله إسرائيل من تهديد مباشر للمصالح والأراضى العربية.
* • •
لقد أظهرت حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطنيين فى غزة والإرهاب اليومى ضد الفلسطينيين فى الضفة الغربية، أن إسرائيل ماضية فى مخططها الإقليمى التوسعى فى أرض فلسطين ولبنان وسوريا والأردن، ثم فى مرحلة لاحقة السعودية والبحرين ومصر وربما اليمن كما يظهر من الوثائق الصهيونية المعلنة. إسرائيل الكبرى لم تعد مجرد حلم، إنها استراتيجية راسخة لإسرائيل والمسيحية الصهيونية، لقد كشفت الحرب بوضوح ضرب إسرائيل القانون الدولى وأخلاقيات وقواعد الحرب عرض الحائط، وأفصح نتنياهو ووزراؤه الإرهابيون مدى كراهيتهم واحتقارهم للعرب.
ومن جانب آخر، اتضح تماما مدى سيطرة إسرائيل والمنظمات الصهيونية فى الولايات المتحدة مثل الأيباك، والصهيونية المسيحية على عملية صنع القرار السياسى فى واشنطن، وليس غريبا أن يقدم نتنياهو الأكاذيب أمام الكونجرس وهو على يقين بأنها أكاذيب، ويهلل له أعضاء الكونجرس الذين حضروا إما لأنهم أعضاء فى المسيحية الصهيونية، وإما خوفا من نفوذ الأيباك ضدهم فى دوائرهم الانتخابية، فصفقوا كذبا وهم موقنون بذلك.
العلاقات الأمريكية الإسرائيلية تجنب أية علاقات أمريكية عربية مهما كانت، والواقع أن صانعى القرار فى واشنطن مثلهم مثل إسرائيل لا ينظرون بأية غبطة تجاه موارد العرب، على العكس تماما يسعون إلى استنزاف تلك الموارد بكل الطرق، والجميع يعلم أن الاستثمارات الأجنبية فى أذون الخزانة الأمريكية أو الأموال المودعة فى مؤسسات التمويل الأمريكية سواء من العرب أو اليابان أو الصين أو غيرها هى استثمارات غير مردودة، إنها شبه استحواذ لا يمكن للاقتصاد الأمريكى الاستمرار بدونها، ولذلك فهى رهينة إلى حين، التحالف الإسرائيلى الأمريكى موجه ضد العرب ومصالحهم ومواردهم وأراضيهم.
* • •
ولا يغرب عن البال أن إعادة انتخاب ترامب إلى الرئاسة الأمريكية ستكون له أخطر التداعيات على أمن الدول العربية، فهو ينتمى إلى المسيحية الصهيونية بقوة وهو رئيس عنصرى متحيز إلى العرق الأبيض، وهو قد وقف وسيقف ضد كل الأجناس وخصوصا العرب، وسيؤدى التحالف الأمريكى الإسرائيلى فى السنوات القادمة إلى إعادة النظر فى دول الوطن العربى، هل يعاد رسم الحدود، هل تظهر دول على حساب أخرى، هل يحل محل الوطن العربى مفهوم الشرق الأوسط بما يعنيه من مركزية إسرائيل فوق الجميع؟ ومن المؤكد أن الجغرافيا السياسية للوطن العربى سوف تتبدل وتتغير، ومن الممكن أن يظهر إلى السطح التحالف الإسرائيلى الإيرانى التركى الأمريكى ضد الدول العربية، الفكرة السائدة فى الأدبيات الأمريكية والإسرائيلية وفى أوروبا أن العرب لا يحق لهم امتلاك مصادر الطاقة، البترول والغاز الطبيعى والتى تؤثر فى الحضارة الغربية. ويصب ذلك كله فى تحقيق شعار ترامب «إعادة بناء أمريكا» كيف وهى أكبر دولة مدنية فى العالم، جزء من الإجابة التحكم فى دول الوطن العربى، وإعادة تشكيلها، وجزء آخر إشعال الصراعات والحروب ليس فقط لتدمير تلك الدول (ليبيا واليمن وسوريا والسودان والصومال و........)، ولكن أيضا لتشغيل وتنشيط التحالف الصناعى العسكرى فى الولايات المتحدة والغرب.
بعد أن حصحص الحق، وفى إطار عملية صنع القرار الاستراتيجى والسياسى الأعلى، ربما يفكر صانعو القرار العرب فى أخذ خطوات استباقية، وهى متأخرة فعلا، نحو إعادة النظر فى كيفية الاستعداد لمواجهة ما هو قائم وما هو آتٍ، هل يمكن إعلان الكونفدرالية العربية التى التى لا تنتقص من سيادة أية دولة ولكنها تشمل التنسيق السياسى والعسكرى، وقد سبقتنا إلى ذلك النيجر وساحل العاج ومالى، والروابط الثقافية والتاريخية لدينا محورية وأقوى من ذلك التجمع؟ وهل يمكن تشكيل الحلف الاستراتيجى العربى كبديل لمعاهدة الدفاع المشترك قبل أن يفرض علينا حلف الشرق الأوسط وهو أحد مكونات المشروع الأمريكى للمرشح ترامب فور نجاحه فى نوفمبر القادم؟ الخيارات عديدة ومفتوحة أمام قادة وزعماء العرب لرأب الصدع، والتوافق على إعداد العدة لما هو قادم، ومما يساعدهم على ذلك أن الحق صار واضحًا وأن الشعوب العربية لديها توقعات كثيرة منهم ولديهم الحق فى ذلك، الأمة العربية حباها الله بنعم لا تعد ولا تحصى، منها الموارد، وعلى رأسها الموقع الجيوستراتيجى الملهم، هل نحتاج إلى قمة عربية طارئة؟ نعم، ننتظر الدعوة إليها من كل القادة العرب المسئولين عن أمننا القومى بما يتضمنه من جودة الحياة لنا كافة.