بل ازدهار السياسة فى مصر - علي الدين هلال - بوابة الشروق
الإثنين 17 يونيو 2024 7:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بل ازدهار السياسة فى مصر

نشر فى : السبت 7 مارس 2009 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 7 مارس 2009 - 8:50 م
شدنى إلى جريدة «الشروق» أنها منبر ليبرالى يتيح لوجهات النظر المختلفة والمتنوعة التعبير عن نفسها فى إطار من احترام الرأى والرأى الآخر. وفى هذا السياق، أود الاختلاف مع الرأى الذى عبر عنه الصديق القديم الأستاذ فهمى هويدى فى مقال له بعنوان «موت السياسة فى مصر» نشرته «الشروق»بتاريخ 24/2/2009.

ومع أن هناك أكثر من موضوع تناوله المقال يمكن أن تتعدد الآراء بشأنه مثل الحديث عن إفقار الطبقة الوسطى وهى مقولة راجت دون تمحيص علمى دقيق لها فى اعتقادى وأن الأدق القول إن العناصر التى كونت الطبقة الوسطى التى تبلورت فى الخمسينيات والستينيات من القرن الـ20 ضعفت فعلا وتراجعت بينما تقدمت عناصر أخرى لتحل محلها أى إن الطبقة الوسطى موجودة ولكن بعناصر ومكونات أخرى.

أو الحديث عن عملية «الإخصاء» التى تتعرض لها الأحزاب واعتراض على استخدام تعبير الإخصاء لأنه عندما يحدث فلا رجعة عنه ولا نجاة من آثاره. من ناحية أخرى، فإن توصيف الحالة بالضعف الشديد يفتح الباب لاحتمال التغيير فى السياسات وتغيير الوضع ويعطى الأمل فى المستقبل. ولكن أريد أن أتوقف أمام فكرة «موت السياسة» التى اختارها الأستاذ هويدى عنوانا لمقاله ولرؤيته فيما يحدث فى بلدنا ولشيوع ممارسات الإضراب والاعتصام.

والرأى الذى أطرحه هو على العكس تماما وأن ما نراه فى مصر اليوم، خاصة من عام 2005، هو عودة السياسة إلى مصر وازدهارها بشكل تطورى وسلمى وأنه من الضرورى أن نتلمس العناصر والقوى الجديدة التى أفرزنها تفاعلات العملية السياسية وذلك بما يدعم التطور الديمقراطى.

ما هى السياسة؟ وبأى معيار نحدد عما إذا كانت السياسة قد تراجعت وماتت أو أينعت وازدهرت فى مجتمع ما؟ السياسة فى جوهرها هى قيام الجماعات والقوى الاجتماعية الممثلة للمصالح المختلفة فى المجتمع بالتعبير عن نفسها والدفاع عن مصالحها والسعى لأن تكون السياسات العامة الحكومية محققة لأكبر قدر منها.

والسياسة هى الجدل والتفاعل العلنى بين هذه المصالح التى تمثل قوى اجتماعية طبقية مختلفة. والقوى المتنوعة من طبقة وسطى، من عمال، وموظفين، وفلاحين، ورجال أعمال لهم مصالحهم الخاصة. وفى كثير من الأحيان فإنه يكون فى داخل كل قوة أو جماعة أكثر من مصلحة وأن يكون اختلافا حول أولويات المصالح. ففى حالة العمال مثلا، هناك خلاف فى المصالح بين العمال المهرة والذين يتقاضون مرتبات عالية خصوصا فى القطاع الخاص، والعمال غير المهرة الذين يعملون اعتمادا على بيع قوتهم الجسدية أو ذوى المهارات المنخفضة. ونفس الشىء ينطبق على رجال الأعمال فيوجد اختلاف فى المصالح بين رجال الصناعة من ناحية والمستودين من ناحية أخرى، وبين الكبار والصغار فى كل فئة.

والسياسة هى السياق الدستورى والمؤسسى الذى يتم فى إطاره التفاعل بين مصالح القوى الاجتماعية المختلفة والمصالح المتنوعة فى داخل كل قوة. والسياسة هى تحقيق التوازن بشكل سلمى بين المصالح المختلفة بحيث تشعر كل جماعة أو قوى اجتماعية بأن جزءا من مصالحها قد تحقق. والسياسة بهذا المعنى تتضمن عملية التوفيق بين المصالح من خلال منظومة السياسات العامة التى تتبناها الحكومة.

والصراع الاجتماعى السلمى والذى يعبر عن تعدد المصالح واختلافها هو أمر طبيعى ومشروع وهو جزء من الجدل الاجتماعى السياسى فى أى نظام ديمقراطى، وكلما اتسعت مظاهر هذا الجدل على سطح الحياة الاجتماعية وتم التعبير عنها بشكل علنى ومشروع، ازدهرت السياسة وتوطدت أركانها فى النظم الديمقراطية.

وهذا الفهم للسياسة له طابع ليبرالى ولا يتفق معه بالضرورة أصحاب الأيدولوجيات الشمولية الكلية أو الأنساق الفكرية المغلقة والتى توفر لأصحابها صورة منشودة عن المجتمع المثالى، كما توفر لهم الاعتقاد بأن المجتمعات تتحرك صوب هذا الاتجاه وأن هناك حتمية تاريخية حتى يتم الوصول إلى ذلك المجتمع المنشود. ووفقا لأصحاب هذا الرأى، فإن فكرة التوفيق بين المصالح أو السعى لتحقيق المساومة والحلول الوسط بين المصالح ليست فكرة مقبولة أو سلمية، بل ويذهب بعضهم إلى اتهام أنصارها بالانتهازية وذلك لأن المطلوب هو الانتصار النهائى لإحدى المصالح أو القوى على الآخرين.

وفى ضوء ما تقدم، فإن مصر تشهد عودة متزايدة للسياسة والجدل السياسى والاجتماعى. على المستوى الفكرى والثقافى، تجد الآراء والاجتهادات المختلفة طريقها للتعبير عن نفسها والدخول فى حوار ونقاش بين بعضها البعض وهى عملية تعليمية وتثقيفية. ويوجد فضاء إلكترونى وعالم افتراضى بلا حدود أو قيود يتيح للشباب فرصة التعرف على منظومات مختلفة من الأفكار والتوجهات والحوار بشأنها، كما يتيح لهم فرصة التعبير عن ذواتهم وإطلاق العنان لأفكارهم. وعلى المستوى الاجتماعى تمارس أعداد متزايدة من المصريين حقهم المشروع فى التعبير عن مطالبهم ومصالحهم بشكل سلمى فى إطار القانون. وفى أغلب الحالات، يتم التعامل مع مظاهر هذا التعبير بشكل سلمى وبما يحقق قدرا من هذه المصالح.

فالإضرابات والاعتصامات ليست بالضرورة تحديا لسلطة الدولة أو تقليلا من هيبة الحكومة، وتشهد الديمقراطيات الراسخة فى العالم هذه الحالة بشكل مستمر دون أن يؤدى ذلك إلى الشعور بأنه يمثل انتقاصا من هيبة الدولة واحترامها أو أنه يمثل خطرا على أمنها. من ناحية أخرى، فإن أصحاب النظرات الكلية والشاملة وأولئك الذين يسبغون على الدولة قداسة لابد أن ينزعجوا كثيرا من تلك الممارسات أو ينظروا إليها على أنها تطور سلبى. والحقيقة، أن حق الإضراب والاعتصام يرتبط بفكرة المساومة الجماعية وهى أيضا جزء من التطور الاجتماعى والسياسى ومن التغيير الذى يحدث فى سلوك القوى الاجتماعية وفى سلوك الحكومة.

وأضرب ثلاثة أمثلة للدلالة على هذا التطور فى سلوك الحكومة. الأول حدث من فترة وهو سلوك وزارة المالية تجاه مطالب موظفى الضرائب غير العقارية ورفضت تلك المطالب فى البداية ثم تمت الاستجابة لها فيما بعد. والمثال الثانى يتصل أيضا بسلوك وزارة المالية إزاء إضراب الصيادلة حديثا. والمثال الثالث يتعلق بمشروع قانون زيادة الرسوم القضائية والذى تطور موقف الحكومة تجاهه من التصميم على مشروع القانون ثم تخفيض الزيادة المقترحة إلى النصف ثم إعادة مشروع القانون إلى اللجنة التشريعية لإعادة النظر فيه.

هذه الممارسات من جانب القوى الاجتماعية من ناحية، ومن جانب الحكومة من ناحية أخرى تشير إلى تطور عميق حادث فى الجسد السياسى والاجتماعى المصرى جوهره قبول فكرة التعددية الاجتماعية وتعددية القوى والمصالح. وأن الاختلاف بين تلك القوى والمصالح هو أمر طبيعى ومشروع وأنه يتم حله من خلال المساومة والحلول الوسط.. وهو تطور نحرص على تدعيمه وتكريسه فى المجتمع والحكومة.

 

علي الدين هلال  أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات