السياسة ولغز السفنارية الصفراء - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسة ولغز السفنارية الصفراء

نشر فى : الأحد 7 يونيو 2015 - 8:35 ص | آخر تحديث : الأحد 7 يونيو 2015 - 8:35 ص

«قصائد البامية السلطانى والقرع الملوكى والباذنجان العروسى»، كتبها بيرم التونسى عن فضائح السلطان فؤاد، شقيق توفيق الذى أدخل الإنجليز إلى مصر وشارك فى نهب خيراتها، فما كان من الحكومة المصرية حين عجزت أمام سخرية هذه الأزجال إلا أن أصدرت أمرا إداريا بإبعاده عن البلاد، وبالفعل تم ترحيله إلى تونس حيث عائلة أبيه وجده.. لكن صلته بهذه الأسرة لم تتعد المجاملات البسيطة، وكانت سمعة الوفدى الثائر على السلطة وعلى الاحتلال قد سبقته إلى هناك، فلم يتمكن من الحصول على وظيفة لأن الجميع اعتبر وقتها أن التعاون معه بمثابة عمل عدائى ضد الاستعمار الذى كان قد خرج منتصرا من الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى أن البعض كان يظنه تركيا ــ أجنبيا، نظرا لأصول عائلة «بيرم» التركية. وعلى هذا النحو لم يجد بيرم التونسى بُدًّا من الذهاب إلى فرنسا ــ عام 1919 ــ أملا فى العمل والحرية. استقل الباخرة «شيلى» من الإسكندرية، مجانا كغيره من المبعدين، وكانت محملة بعشرات العائلات السورية الفقيرة المتوجهة إلى أمريكا الجنوبية، وقد احتلوا قسمى الدرجة الرابعة أى السطح والقاع.

•••

تسلسل الأحداث، كما وردت فى مذكراته التى صدرت أخيرا عن دار أخبار اليوم، يفسر ما قاله عن نفسه، واصفا إحساسه بالغربة فى كل مكان: «الأوله آه، والثانية آه، والثالثة آه. الأولى مصر.. قالوا تونسى ونفونى ــ جزاة الخير وإحسانى. والثانية تونس، وفيها الأهل جحدونى ــ وحتى الغير ما صفانى. والتالتة باريس وفى باريس جهلونى ــ وأنا موليير فى زمانى». تصدرت هذه الكلمات الطبعة الجديدة لكتاب «المذكرات» الذى لا يتجاوز حجمه كف اليد وقد جمع بين ضفتيه نصوصا مختلفة نشرت على مراحل متعاقبة، اثنان منهما ينتميان إلى أدب السيرة الذاتية وهما «مذكرات المنفى» التى جاءت على شكل مقالات فى صحيفتى الشباب والسردوك عام 1936، ونص الستينيات المعروف بعنوان «مذكراتى»، أما الثالث فهو نص «مارسيليا» المصنف عادة كأدب رحلات. تمتلئ هذه المذكرات بتفاصيل المعاناة والجوع وأحيانا المرارة، خاصة عندما يقول فى النهاية كمن يعاتب خصومه وأقرانه بعد ثورة يوليو 52: «نسى البعض ــ سامحهم الله ــ أننى كنت من رواد الثورة الأوائل، بل فقط تذكروا ما كان من اعتذارى لفاروق بعد عودتى من الخارج للسماح لى بالبقاء فى مصر، ولكن هل كان هناك طريق آخر غير ذلك، ثم ما الذى فعله عجائز الفرح هؤلاء من الجهاد الوطنى حتى يحاسبونى؟ أم لعلهم كانوا يؤيدون أن أظل فى الخارج يفيض إنتاجى على الصحف دون أن أحصل من ثمرة إنتاجى شيئا؟». لكن تظل سخرية بيرم هى الأقوى، هى التى تنتصر للضعيف دون تجهم، هى التى تحكم العمل من أوله إلى آخره بنصوصه الشيقة، وبالتالى من السهل أن ترتسم على وجهك ابتسامة صافية أثناء القراءة ولا يعد ذلك من باب البلادة أو تجاهل معاناة الشاعر.. بل تأتى كاستجابة تلقائية للروح الوثابة المرحة التى سطرت الحكايات واحدة تلو الأخرى. وبما أن العديد من هذه الحكايات كانت عن الجوع أو تتعلق به، حتى لو فى إطار نضالى وسياسى، وبما أن سبب النفى كان أزجالا عن «البامية السلطانى والقرع الملوكى»، فقد وجدتنى أتابع مسيرته من خلال ما ذكره من مأكولات، ربما كجزء من لعبة جذبنى إليها بيرم دون قصد.

•••

بدأت رحلة المنفى بوجبة عشاء «كريهة المنظر» من اللحم البقرى المسلوق مع«السفنارية» الصفراء. وبعد وصوله إلى فرنسا بفترة وعمله كفراز قطع حديدية فى شركة لإصلاح مركبات البضائع فى منطقة الأردواز القاحلة، قدم له أيضا صاحب المطعم والفندق الريفى الذى يؤوى العمال وعاء ضخما يحوى قطعا من «السفنارية» تطفو على سطح الحساء. ومع تكرار وجبات «السفنارية» نكتشف أنه الجزر بلهجة أهل ليبيا وتونس، وأن الكلمة هى بالأساس ضمن ما تبقى من الموروث العربى ــ الأندلسى. وحين تلوت أمعاؤه من الجوع ولم يدخل شىء جوفه لأيام، أخذ يتحسس الفراش والأرض بحثا عن طعام، قلب الكنبة كالمجنون فتدحرجت بصلة ولمعت قشرتها الذهبية تحت النور. قرر أن يشويها على النار وجعل وقودها قصائد أبى العتاهية وخطابات سيد درويش وعباس العقاد. صعد اللهيب يدفئ الحجرة واحترقت جميع الأوراق ولم ينضج من البصلة سوى ثوبها الخارجى، لكنها أنقذته من الموت جوعا. أما فى مدينة مارسيليا حيث أقام خمسة أعوام أخذه جمال نسائها بأردافهن المميزة ودلالهن الطبيعى، واختلط بالصيادين والبحارة، إضافة إلى 25 ألف عربى احترف معظمهم الأشغال الشاقة.. بصحبة كل هؤلاء تذوق أكلة «البويابيس» الشهيرة وهى نوع من حساء السمك على طريقة الصيادين الفقراء لا تزال المدينة الساحلية تعرف به حتى الآن.

•••

من حرفة إلى حرفة، ومن «سفنارية» إلى بصلة، خلال عشرين سنة قضاها جائلا فى المنافى، نشتم رائحة الجوع، نتعرف على الجو العام لتلك الفترة بكل تقلباتها السياسية وانعكاسات ذلك على حياة البشر. كتب بيرم بعض النصوص لتنشر على حلقات فى الصحف وتدر له قليلا من المال، لكنه قطعا سجل أشياء لكى ينفض الهم عن قلبه، لكى تكون شهادة ساخرة ينال بها حقه بأثر رجعى، فهذا النوع من الكتابة كفيل بأن يخلص من عذابات كثيرة.. انتقام على الورق نظل كلما نقرأه نترحم على بيرم ونلعن من قاموا بإيذائه، فقد خلد ذكراهم بخفة دم تجعلنا نضحك من «مدير قلم الضبط والربط» الذى يتعامل مع الطلبة المتهمين بالاشتغال بالسياسة، ومن سفاهة من قالوا: «وما دخل التونسى فى مصر وحاكم مصر؟» ومن أذناب النظام والموعودين بمناصب كبيرة والحاقدين. ونضحك أيضا حين يرد على من يسأله عما قصده بالفضائح السلطانية وقصائد البامية قائلا إنها تقليد لنداء باعة الخضراوات فى الإسكندرية آنذاك، ونضيف نحن فى سرنا أن موضة «القرع الملوكى» و«قصائد البامية» لا تبطل أبدا.

التعليقات