التاريخ العظيم.. وغوايته الخطيرة - مواقع عالمية - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 5:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التاريخ العظيم.. وغوايته الخطيرة

نشر فى : الخميس 7 سبتمبر 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : الخميس 7 سبتمبر 2023 - 8:35 م
نشر موقع Project Syndicate مقالا للكاتب هارولد جيمس، تناول فيه رؤيتين لصعود وهبوط الأمم، فى الرؤية الأولى، يكون هناك دولة مهيمنة لمدة من الزمن ثم تضعف وتحل محلها أخرى. أما الرؤية الثانية، تتعلق بتقلبات قصيرة الأمد تؤدى إلى إضعاف الدولة اقتصاديا. شرح الكاتب أن الرؤيتين ليستا حتميتين، وتعتبران دليلا هشا على تحليل صراعات القوى العظمى، خاصة الصراع الحالى بين أمريكا والصين.. نعرض من المقال ما يلى.
وراء الفوضى العالمية اليوم، نجد روايتين متصلتين حول مواطن القوة ونقاط الضعف النسبية لدى مختلف البلدان فى المنافسة على القوة العالمية. تدور الرواية الأولى حول صعود وسقوط الأمم والحضارات فى الأمد الطويل، فى حين تدور الأخرى حول أوضاع وأحوال أقصر أمدا.
من المنظور الغربى، تنظر الرواية الأولى إلى الصين باعتبارها تهديدا بسبب قوتها غير العادية، فى حين تعرضها الراوية الثانية على أنها تهديد بسبب ضعفها المتأصل. من ناحية أخرى، ينظر قادة الصين إلى أمريكا باعتبارها تهديدا لأنها ضعيفة بنيويا وتهيمن عليها نخب سياسية حاكمة مُـسِـنَّـة، ولكن أيضا تظل قوية بدرجة غير عادية وعاقدة العزم على عزل أى منافس لها فى الأمد القريب. على حد تعبير وزير التجارة الصينى وانج وينتاو، متحدثا نيابة عن الرئيس شى جين بينج مؤخرا، «فى هوسها بإدامة هيمنتها، تبذل بعض الدول قصارى جهدها لتعجيز الأسواق الناشئة والبلدان النامية».
تعتمد الرؤية الأولى للمستقبل على العدسة التحليلية البسيطة للأحوال الجيوسياسية. ينشغل أهل السياسة الجغرافية برسم سيناريوهات طويلة الأمد للصعود والسقوط. تتسم خطوط حبكتهم بالوضوح دائما: دولة واحدة تهيمن على العالم طوال قرن من الزمن أو نحو ذلك قبل أن تتبدل أحوالها وينال منها الإنهاك وتفقد مكانتها.
من الأمثلة البارزة لهذا النهج كتاب المؤرخ بول كينيدى الشهير الصادر عام 1987 بعنوان «صعود وسقوط القوى العظمى»، والذى لا يزال يحدد شروط المناقشة حتى يومنا هذا. كما يروى لنا، كانت إسبانيا الدولة المهيمنة من منتصف القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر، وتلتها فرنسا فى القرن الثامن عشر، وبريطانيا فى القرن التاسع عشر، ثم الولايات المتحدة بعد عام 1945. المغزى الضمنى وفقا لهذا الإطار الطويل الأجل، هو أن الصين حان دورها الآن.
فى الأغلب الأعم، يؤدى الانتقال من قوة عُـظمى إلى أخرى إلى نشوء توترات وحروب، لأن القوة القديمة الآفلة ستحاول مقاومة وإحباط صعود المنافس. لكن هذا يميل إلى خلق نبوءة تتحقق بذاتها: فى كل من دراسات الحالة التاريخية التى أجراها كينيدى، كان الصراع العسكرى يُـعَـجِّـل بزوال القوة العظمى.
فى السياق الحالى، يأتى «الانفصال» فى العلاقة الصينية الأمريكية نتيجة لمخاوف تكاد تكون متماثلة على الجانبين. إذ يتهم الجانب الأمريكى الصين بتخريب النظام الدولى القائم على القواعد الذى تقوده الولايات المتحدة، وسرقة التكنولوجيا والملكية الـفِـكرية، وتجاوز خطوط حمراء باستخدام بالونات تجسس، واختراق الهيئات الحكومية، ونشر معلومات مضللة لتقويض الثقة فى النظام السياسى الأمريكى.
على نحو مماثل، قررت الحكومة الصينية للتو، خوفا مما قد تتعلمه الولايات المتحدة من عمليات المراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية، تقييد البيانات الاقتصادية التى تنشرها، كما أقرت قوانين جديدة ضد التجسس. الواقع أن قسما كبيرا من الشعب الصينى ــ وقيادات الصين ــ مقتنعون بأن أمريكا عاقدة العزم على عرقلة صعود الصين الطبيعى ــ ويرون أن هذا من شأنه أن يعيد الصين إلى الحالة التى كانت عليها قبل «قرن الإذلال»، عندما أُخـضِـعَـت، ونُـهِـبَـت، وأُفـقِـرَت على يد القوى الغربية واليابان.
• • •
فى بعض الأحيان، تصطدم وجهات النظر الأطول أمدا ــ المذكورة أعلاه ــ باعتبارات أقصر أمدا. فى الأشهر الأخيرة، على سبيل المثال، كان الساسة والصحافيون فى مختلف أنحاء الغرب عاكفين على الاستنباط من التغيرات القصيرة الأمد فى نمو الدخل الوطنى للخروج بتكهنات كبرى حول من يفوز ومن يخسر فى اللعبة العظمى الجديدة. فى أوائل العقد الأول من القرن الحالى، عندما كان أداء الاقتصاد الألمانى هزيلا، تَـمَـسَّـكَ المعلقون بفكرة مفادها أن ألمانيا كانت «رجل أوروبا المريض». لكن ألمانيا نظمت بعد ذلك عودة غير عادية، لتصبح واحدة من أكبر المستفيدين من التجارة فى عصر جديد من العولمة. ولكن مع ضعف أدائها الاقتصادى نسبيا، أصبحت تُـعَـد رجل أوروبا المريض مرة أخرى.
يركز المعلقون اليوم بشدة أيضا على مشكلات الصين الاقتصادية، وخاصة معدل البطالة المرتفع بين الشباب، وانهيار سوق العقارات، والذى يتناقض مع طفرة الاستثمار والتصنيع الجديدة فى أمريكا، فى أعقاب صدور تشريعات جديدة مثل قانون خفض التضخم. بطبيعة الحال، سوف يستنتج أولئك الذين يتبنون هذا المنظور القصير الأمد أن الصين بدأت تضعف، وأن أمريكا لا تزال على القمة. فهى على النقيض من توقعات الانحدار تستفيد من تفكك العولمة، فى حين تعانى اقتصادات كبرى موجهة نحو التصدير (مثل الصين وألمانيا).
يعمل هذا التفاؤل ــ الذى يعتبره بعض المراقبين غطرسة ــ على تغذية مخاوف الصين بشأن تخريب نهضتها، لأنه يستحضر أوجه تشابه تاريخية قوية. الواقع أن القوى المهيمنة قادرة على الرد بشراسة على كل من ترى أنه يتحداها أو يباريها، وهى تفعل ذلك عادة: فقد دمرت بريطانيا الصين فى أوائل القرن التاسع عشر بإغراقها بالأفيون، وكانت الولايات المتحدة حريصة على القضاء على التحدى اليابانى فى أواخر القرن العشرين.
من السهل أن ننسى أن مخاوف الولايات المتحدة فى ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين، بشأن المنافسة الصناعية غير العادلة من جانب اليابان، كانت شديدة الوضوح إلى الحد الذى جعل معلقين مشهورين ينشرون كتبا تحمل عناوين مثل «الحرب القادمة مع اليابان». عندما انفجرت فقاعة أسعار الأصول اليابانية فى عام 1991، ظن كثيرون من اليابانيين أن فى الأمر مؤامرة أمريكية، وخاصة بعد الدور الذى لعبته سياسة الولايات المتحدة فى الديون غير المستدامة التى تراكمت على اليابان فى ثمانينيات القرن العشرين. ومن السهل أيضا تحديث هذا السيناريو لينطبق على السياق الحالى. فى النهاية، ألم يكن ارتفاع أسعار الأصول بشدة فى الصين فى العقد الثانى من القرن الحالى (بما فى ذلك فورة المضاربة فى العقارات) راجعا بشكل جزئى إلى النظام النقدى الأمريكى المتساهل بعد الأزمة المالية العالمية؟
• • •
الحقيقة المحزنة هى أن كلا من الروايتين تشكلان دليلا هزيلا للمعضلات السياسية فى الوقت الحاضر. وعندما يفكر صناع السياسات فى الأمد البعيد، يجب أن يتجنبوا إغواء مذهب الحتمية. فلا يوجد قانون تاريخى يُـمـلى مدة صلاحية المؤسسات الجديرة بالثقة. لقد دام التفوق المالى البريطانى أكثر من قرنين من الزمن، من أواخر القرن السابع عشر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. لكن هذا لا يعنى أن التفوق المالى الأمريكى قد يدوم لفترة مماثلة.
أما التقلبات القصيرة الأمد فتشكل دليلا أشد سوءا. فقد شهدت بلدان عديدة استفادت من العولمة صدمات وانتكاسات، لكنها تكيفت وعادت أقوى مما كانت. ولا ينبغى لفقاعة العقارات المنهارة أن تدمر الصين، تماما كما لم يدمر انهيار سوق العقارات فى عام 2008 الولايات المتحدة. وقد تتعلم الصين من تجربة اقتصادات آسيوية أخرى سريعة النمو، مثل كوريا الجنوبية، التى شهدت ارتباكات شديدة فى سبعينيات القرن العشرين (أزمة النفط)، وفى أوائل الثمانينيات (أزمة الديون الدولية)، ومرة أخرى فى أواخر التسعينيات (الأزمة المالية الآسيوية). وفى كل من هذه المناسبات نجحت فى تكييف نموذج النمو وتحقيق الازدهار.
الجميع يريدون قصة بسيطة. لكن المهمة الحقيقية التى يجب أن يضطلع بها التحليل التاريخى لابد وأن تكون تفكيك الروايات الحتمية، وليس مسايرتها.
النص الأصلى:

التعليقات