غمرت مياه الفيضانات مدينة طوكر، أقصى جنوب شرق السودان، وتكرر اسمها فى الآونة الأخيرة، إذ أطلق الأهالى صرخات استغاثة نظرا لتضرر أكثر من عشرين ألف منزل وتشريد قرابة 120 ألف شخص من إجمالى عدد سكان يصل إلى 170 ألف نسمة، بسبب سقوط الأمطار الموسمية الغزيرة على هضبة إثيوبيا ومرتفعات إريتريا. وأدى ذلك إلى تدمير وادى «بركة» وانهيار سد «أربعات» الذى يغذى بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة الواقعة على بعد حوالى 200 كم من طوكر.
عند سماع هذا الخبر الأليم، أول ما يتبادر إلى أذهاننا كمصريين، غير التعاطف مع الضحايا بالطبع الذين لا نعرف عددهم على وجه الدقة، هى المقولة الدارجة على الألسنة «ح نروح فى طوكر»، كناية عن الذهاب إلى مكان بلا رجعة أو للدلالة على نفى محتمل ومصير مجهول. أغلبنا يردد الجملة دون أن يعرف موقع طوكر على الخريطة ولا تاريخ علاقتنا بها، وهى حكاية لها تفاصيل شائكة تلقى بظلالها على الواقع الحالى للمنطقة.
• • •
البعض يرجع أصل جملة «ح نروح فى طوكر» إلى أيام محمد على باشا الذى كان يعاقب معارضيه بإرسالهم إلى هناك، فى حين يدفع آخرون إلى أنها ظهرت فى عهد الخديوى توفيق حين أقنعه الإنجليز بضرورة عودة جنود الحامية المصرية فى الصومال بعد أن قضوا 12 سنة هناك بالتوافق مع الأهالى. كانت حجتهم أنهم موالون لعرابى ومؤيدون لثورته، وفى الواقع أرادوا استبدالهم بقوات بريطانية، وهو ما حدث بالفعل، وقام الخديوى بإرسال هؤلاء الضباط والجنود المصريين إلى طوكر فى ولاية البحر الأحمر السودانية ولم يعودوا منها أبدا.
وكما هو الحال بالنسبة للحكايات التاريخية تتعدد الروايات بتعدد الأصوات ووجهات النظر، فنجد رأيا ثالثا مفاده أن سبب ذيوع هذا التعبير هو هزيمة حملة فالانتين بيكر - الضابط البريطانى وشقيق السير صامويل بيكر - الذى قاد جنودا مصريين، على يد رجال الثورة المهدية فى طوكر بقيادة عثمان دقنة، أمير سواكن، الذى اشتهر بحنكته العسكرية، لكنه اعتقل بعدها بفترة ونقل أسيرا إلى مصر قبل إعادته للسودان حيث توفى عام 1927.
أميل أكثر للرواية الثانية، ربما لأن هناك تفاصيل ووقائع تعضد منطقيتها وتبرر انتشار جملة «ح نروح فى طوكر» على ألسنة المصريين، فالقصة تقول إن الخديوى إسماعيل كان مقتنعا بأهمية السيادة المصرية على ساحل البحر الأحمر الغربى، وإنه بعث برسالة إلى ناظر البحرية عام 1869 يؤكد فيها أن: «البحر الأحمر فى نظر الحكومة المصرية أكثر أهمية من سائر البحار، واكتساب المعلومات للسير والسفر فيه أمر واجب على ضباطنا البحريين.. ولابد من الوقوف على أحواله»، وهذا ما يفسر امتداد النشاط المصرى وقتها على طول ساحله الغربى وصولا حتى شرق إفريقيا.
• • •
أرسل الخديوى إسماعيل بعثات كشفية هناك ومد خطوط التلغراف، ولما اعترض حاكم عدن - إدوارد ليتشمير روسل - على وجود مصر فى تلك المناطق الواقعة بطول الساحل الغربى للبحر الأحمر ونجاحها فى حل النزاعات المحلية القائمة آنذاك بين قبائل بربرة وبلهار، قررت القاهرة إنزال جنود مصريين فى ميناء بلهار العتيق على الساحل الصومالى، لاسيما أن سكانها وفدوا إلى القائد المصرى وشجعوه على مواصلة التقدم نحو مدينة بربرة المجاورة، وطالب شيوخ القبائل بالتدخل المصرى للوقوف أمام الأطماع البريطانية والإيطالية، مستندين إلى حقوق تاريخية باعتبار الأراضى المذكورة ضمن الأملاك العثمانية التى تنازل عنها الباب العالى للحكومة المصرية.
فى يونيو 1870 عينت هذه الأخيرة أحمد ممتاز باشا واليا على سواحل إفريقيا الشرقية، بما فى ذلك بلهار وبربرة، ورفض الأهالى رفع العلم البريطانى فى تلك المناطق. ثم أصدرت أمرا فى فبراير 1871 بتعيينه حكمدارا على السودان، وظل فى منصبه إلى أن أقاله الخديوى فى أكتوبر 1872 وسجنه فى الخرطوم حتى مات، بسبب تورطه فى قضايا فساد مالى وإدارى وفرضه ضرائب غير قانونية، وجاء أدهم باشا العريفى خلفا له. لكن خلال العام الذى تولى فيه ممتاز باشا أمور السودان أدخل زراعة القطن فى دلتا طوكر التى تعد من أخصب الأراضى الزراعية فى العالم، فالمحاصيل المختلفة تنمو فيها دون مشقة بسبب طبيعة التربة وتوافر الأمطار.
أحضر بذور القطن من مصر وطلب إلى حكومته أن تمده بمزارعين مهرة للاستعانة بهم وإرشاد الأهالى، كما أرسل له الخديوى الأدوات اللازمة لحلج القطن بحرا عن طريق مرسى «ترنكات». وقد حقق نجاحا كبيرا خلال الحرب الأهلية الأمريكية فى تصديره إلى الأسواق العالمية عن طريق سواكن. ثم انتشرت بعدها مصانع الغزل والنسيج فى طوكر وصارت أول مدينة سودانية يدخلها التيار الكهربائى وتهاتف أوروبا تليفونيا وذلك لتحديد سعر القطن فى البورصة العالمية، واستقرت بها جاليات أجنبية هندية وإيرانية وتركية ومغاربية ويمنية...، إضافة إلى أبناء القبائل السودانية خاصة البجاوية.
فى الوقت نفسه، كان أفراد الحامية المصرية فى الصومال يمدون أنابيب الفخار لتصل المياه إلى البيوت ويبنون مسجدا كبيرا ومنارة فى ميناء بربرة ويعملون على إضاءة الطرقات بالمصابيح الزيتية، إلى أن نفاهم الخديوى توفيق- ابن إسماعيل - إلى طوكر السودانية بناءً على نصيحة الإنجليز كما ذكرنا.
• • •
تدور الأيام والسنوات، وترسل مصر طائرتين محملتين بمعدات عسكرية إلى الصومال، بعد توقيع بروتوكول للتعاون الأمنى بينهما فى أغسطس الماضى. تعرب عن استعدادها للمساعدة فى حفظ أمن مضيق باب المندب على البحر الأحمر مؤكدة على أهميته بالنسبة لقناة السويس، كما تعلن عن مشاركتها فى البعثة الجديدة لحفظ السلام، «الأمر متروك للدولة المضيفة (الصومال)، إن كانت ترغب فى أن نكون موجودين فسنكون». وتأتى هذه التطورات بعد معارضة مصر لتوقيع الحكومة الإثيوبية فى يناير الماضى على اتفاق مبدئى مع إقليم «أرض الصومال» أو «صوماليلاند» تحصل بموجبه أديس أبابا على منفذ بحرى يتضمن ميناءً تجاريا وقاعدة عسكرية فى بربرة لمدة خمسين عاما، مقابل الاعتراف بصوماليلاند كدولة مستقلة.
تصادفنا أسماء بربرة وبلهار فى الصحف وتأتينا الأخبار المؤسفة للغرقى والمصابين فى طوكر التى صارت تعرف بمدينة «الغبار» بعد أن ارتفعت أراضى الدلتا وانخفضت المدينة بسبب تراكم رمال العواصف الموسمية. أنهكتها سياسات التهميش وحروب الولاءات مثل باقى المنطقة، وراحت أحلامها أدراج الرياح.