ماسبيرو فى الزمانات - إسعاد يونس - بوابة الشروق
الأحد 2 يونيو 2024 12:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماسبيرو فى الزمانات

نشر فى : الأحد 8 مارس 2009 - 5:40 م | آخر تحديث : الأحد 8 مارس 2009 - 5:40 م

 اصطحبنى عظيم الميكروفون الأستاذ طاهر أبوزيد فى طرقات الإذاعة، متجهًا بى إلى مكتب الأستاذ عبدالحميد الحديدى.. يا الله.. كانوا كلهم عظماء.. سرت وراءه فى خشوع ورهبة فالمكان يشبه المعبد.. والممرات هادئة نظيفة دافئة. كنت فى السادسة عشرة، والهدف كان تقدمى لألتحق بمكتبة البرنامج الموسيقى المحلى الذى تم افتتاحه منذ أيام.

عدد قليل من الناس يمرون بالمكاتب.. الأبواب مغلقة وإن فتحت ترى بالداخل عددًا قليلًا من الموظفين يتحركون فى وقار واحترام كأنهم يقضون يومهم وهم ممتنون شاكرون لانتمائهم إلى هذا المكان الراقى الرائع.

بعد امتحان صعب وافق الأستاذ الحديدى على تعيينى بالقطعة، أجر مقابل عمل فى المكتبة الكلاسيك، كنت أجلس فى المكتبة لأنظم الأسطوانات الكلاسيكية وأرقب بمنتهى الانبهار كبارات الإذاعة الأوروبية مثل سليم رزق الله، نادية ليونكافاللو، مجدى غنيم، محمد سلماوى، سمير صبرى، نيقولا بركات، وإذا أردت أن أخرج لأتجول فى أروقة الإذاعة فأقف فاغرة الفم عندما أرى السيدة صفية المهندس أو بابا شارو أو السيدة آمال فهمى إلى آخر تلك القامات العملاقة.

وعندما انتقلت للعمل فى إذاعة الشرق الأوسط كنت «بتلزق» فى الحيط عندما يمر أونكل طاهر أو العظماء محمد علوان.. مديحة نجيب.. عاطف عبدالحميد.. حسن شمس برضه إلى آخر قائمة.

كانت الصفة الغالبة على المبنى هى الوقار والهدوء والرقى وكان المكان الوحيد الذى يمكن أن تصفه بالزحمة وليس الفوضى هو مكاتب وستوديوهات الدراما أو البرامج الجماهيرية.. وذلك لوجود عدد محدود من الكومبارس وتحديدًا فى ستوديو 1 و2 و5 والدور الأول قسم التمثيليات.

مرت الأيام وخرجت من المبنى متجهة إلى التمثيل وشققت طريقى فى الحياة الجديدة وبعد سنوات لم أدخل فيها هذا المبنى العملاق تعاقدت على مسلسل السقوط فى بئر سبع واضطررت لدخول المبنى للعمل فى ستوديو عشرة الذى أنشئ حديثا وخصص لدراما المسلسلات.

ويالهول ما رأيت.. فاستوديو عشرة هذا يقع أو كان يقع فى الدور الأرضى فى ممر واسع جدًا وطويل توجد فيه استوديوهات أخرى عدة،
عندما دخلنا أنا وسعيد صالح وتفقدنا الديكور وغرف خلع الملابس فوجئنا بعدم وجود دورة مياه داخله، سألنا فقيل لنا إن دورات المياه مجمعة كلها على الصف المقابل لباب الاستوديو المطل على الكوريدور أو قل الشارع الداخلى للدور الأرضى.

طيب مافيش مشكلة لما نبقى نحتاجه نبقى نعدى الشارع وخلاص.. ولكن اتضح إنه مش خلاص.

كان الديكور عبارة عن شقتنا فى المسلسل يعنى فى مشاهد كثيرة نرتدى أنا وسعيد وحنان ترك وخالد محمود ملابس النوم وبما أننا بشر فقد احتجنا لأن نذهب إلى دورة المياه خرجت أنا الأول من الاستوديو بقميص النوم والروب وكانت أول مرة أتعرف على هذا الكوريدور فى النهار.

وقفت مذهولة وكأنى صعيدى تايه فى ميدان العتبة، أمة لا إله إلا الله كمية من البشر يستحيل أن يكونوا كلهم موجودين فى هذا التوقيت ولا المكان للعمل فى الاستوديوهات المنتشرة بالمكان، مين الناس دول؟

إن المناظر والأزياء والمسلك العام لا يمت بصلة لأننا بداخل محراب الفن والثقافة والإعلام.. دى مش مناظر ناس متعلمة أصلًا، لا إعلام ولا حتى ألف به إنهم يتجولون بلا هدف كده فى المكان مش رايحين فى أى حتة والمذهل أن المفاجأة كانت فى اتجاهين.
شعرت بأن الحركة تتوقف قليلا أو قل تبطئ والرءوس تستدير لتحدق فىّ.. وهمسات من عينة «دى فلانة، ده يظهر بيعملوا مسلسل هنا» يظهر؟ يا نايبة سودة «ومالها كده طالعة بقميص نوم؟».

أخفيت نصف جسمى فى باب الاستوديو وأطللت برأسى أراقب تعبيرات الدهشة على هؤلاء الناس وأنا أتعجب فى سرى «مالهم دول؟ أنا يظهر دخلت مبنى غلط» ونظرت ورائى لأتحقق من أنى خرجت من باب الاستوديو مش من باب مجمع التحرير واستجمعت شجاعتى واستعددت للعبور الكبير من الباب إلى الدورة ولكن لم تمر الرحلة بسلام أبدا.

الناس اتلموا عليّا ولا كأنهم شافوا ممثلين قبل كده وفين؟ فى مبنى التليفزيون وأوتوجرافات طلعت وزحمة وإحنا معجبين بيكى قوى وإنتوا بتعملوا إيه هنا؟ ولكن ما صدمنى أكثر هو ذلك الذى تنبه لوجودى فبدأ يتجه إلى فى تصميم وإصرار قاصدنى قاصدنى.

استدرت ودخلت جرى الاستوديو، وذلك الرجل خلفى يطاردنى واضعا ذيل جلابيته بين أسنانه محاولًا الإمساك بى ليستوقفنى، فزع سعيد صالح من شكلى وهب واقفا «إيه؟ فيه إيه؟» كان الرجل قد استقر بيننا وبدأ يفرش ما كان يحمل فوق كتفه وأزاح الشاشة البيضاء التى كانت تغطى نصبة المنين والشوليك!!

يانهار اسود هكذا صرخ سعيد إنت إيه يابنى؟ إنت سارح كده فى التليفزيون بالصينية دى؟ فرد الرجل: «أحلى لقمة مع الشاى عايزين نستفتح يابيه فيه منين وشوليك وقرص بالسمن البلدى!!» بدأ سعيد يتريق «ومافيش حد هنا عنده كوارع؟ شوفلنا كارعين يسندوا المعدة وحياة والدك».
ولم تكن هذه هى المفاجأة الوحيدة فقد بدأ سيل البائعين ينهمر علينا ستات محجبات معاهم إيشاربات ومناديل بقوية وغيارات داخلية حريمى وشرابات كأنك فى سوق الموسكى بالظبط.

لاحظ سعيد أنى غير معنية بالشوليك ولا القرص، الحالة بقت جيم ووجب التوجه إلى المجهول وبما أنه ابن بلد وشهم فقد انتفض واقفًا وتزعم القوم صائحا: «ياللا يا ولاد إحنا رايحين الدورة».

استجمعنا شجاعتنا وخرجنا فى كتيبة واحدة من مرتدى قمصان النوم والبيجامات متوجهين إلى الدورة فأصبحت فجأة مظاهرة فقد كان القرار أن نرد الهجوم بهجوم مماثل، نخرج فى شكل تجمع فيذهلوا مرة واحدة ويمضونا كل الأوتوجرافات مرة واحدة ونرفض شراء أى بضاعة من المعروضات المنتشرة فى المكان فيكرهونا ويبعدوا عننا ويتركونا نعمل فى سلام ولكن هيهات.

توجهنا إلى الدورة وخلفنا جمهرة تفوق زحمة طوابير العيش وبدأوا يتفننون فى إغاظتنا فتزاحموا على أبواب الدورة التى كانت تتكون من أربع كبائن حريمى ومثلها رجالى يا ولاد اللذينة، الحالة أصبحت سين شين صاد ضاد، وبدأت تتفاقم حتى مع من أتوا لحمايتنا أو للتعاطف والمناصرة الكل يقف لافا ساقيه على بعضهما والمخرج يصرخ من داخل البلاتوه «ياللا يا جماعة المشهد جاهز والنور والع».

وارتبط بلاتوه عشرة بهذا العذاب اليومى الذهاب الجماعى إلى الدورة والمؤازرة والتشجيع من الباقين بالداخل وطقوس الوداع على الباب مع إعطائنا مستلزمات الرحلة ثم التهليل والفرحة عند عودتنا سالمين لدرجة الزغاريد والأحضان والقبلات، تريقة طبعا.

وكان السؤال الملح طوال الوقت من كل هؤلاء؟ كم واحد فيهم يعمل فعلا فى البرامج أو الدراما؟ هل من المعقول أن كل هؤلاء موظفون فى المبنى؟ هل يمكن أن يكون بائع الشوليك موظفًا وبيقلب رزقه فى عمل إضافى مستغلا وجوده فى المبنى؟ هل معقول أن يكون قادما من الخارج؟ هل هناك من يستفيد من السماح له بالدخول؟ هل الاستفادة تتم بشكل فردة يومية أو نسبة على المبيعات؟

كان هذا ما رأيناه عام 92 حين صورنا المسلسل ترى ما الحال الآن؟
هل تحسن؟ هل ازداد سوءا؟ خصوصا أن حجم تعيين أبناء العاملين بالواسطة استفحل فى السنوات التالية.

هل من الممكن أن نتخيل أننا لو دخلنا المبنى اليوم سنجد فى هذا الكوريدور ميكروباسات وتكاتك مثلا؟ ولم لا؟ وقد قرأت أن ظاهرة جديدة بدأت تغزو المبنى وهى انتشار المنقبات!!
ولنا فى هذا حديث آخر.. نلتقى بعد الفاصل.

إسعاد يونس  فنانة ومنتجة سينمائية مصرية
التعليقات