ترنيمة ..لجزيرة الورد! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ترنيمة ..لجزيرة الورد!

نشر فى : الخميس 8 أبريل 2010 - 9:39 ص | آخر تحديث : الخميس 8 أبريل 2010 - 9:39 ص

 «صوت الغُنا
بيخضّر اللبلاب
ويكبّر الكيزان
ويدفع العَجَل التقيل القلب
عشرين سنة لقدام»

طفا فى ذاكرتى هذا المقطع من قصيدة أبنودية بعيدة صباح الإثنين الجميل الفائت، يوم عيد الربيع، ووجدت نفسى فى شوق كبير للأبنودى، فهو ليس مجرد قامة إبداعية أخّاذة وعالية، بل حالة شعرية فى الوجود ومتعة إنسانية فى الصحبة، رفعت سماعة التليفون وطلبته فى الإسماعيلية حيث يعشش كطائر كبير مغرد بين الشمس والظلال التى زرعها بجهدٍ كبيرٍ وحب.

ردّدتُ عليه مقطع القصيدة فاندهش أن تكون فى ذاكرتى، وقال بشجن شفيف: «كان الزمن يوحى بكده»، قلت له: «ولايزال»، فى العلم، والفن، والحياة، حتى فى السياسة. لم أكن أجامل الأبنودى، بل كنت أوجز له إشراقة أضاءتنى فى ذلك الصباح الطيب، وجعلتنى أهتدى لفكرة هذا المقال، وأسعى لجمع أطرافه.

شىء مدهش حقا أن يسبق الشعر اكتشافات العلم، فهناك دراسة حديثة للباحثة الأمريكية «دورثى ريتاليك» أثبتت فيها أن النباتات تنمو متجهة نحو مصدر الصوت فى غرفة تُذاع فيها الموسيقى الكلاسيكية خاصة موسيقى باخ وأغنيات «إشق» (العشق) الهندية، بينما فى غرفة تذاع فيها موسيقى الروك الصاخبة مالت النباتات مبتعدة كأنها تحاول الهروب من النافذة! وفى دراسة للدكتور «سينج» رئيس قسم النبات فى جامعة «أتانالى» بجنوب الهند، ثبت أن عزف الكمان والآلات الوترية وبينها آلة هندية تسمّى «فينا»، له أثر واضح فى نمو النباتات بنسب ملحوظة كان أبرزها نمو شجرة «الميموزا» التى ثابر العالِم «سينج» فى العزف لها كل صباح على آلة الكمان! وقد روجعت هذه النتائج فى أوروبا، وثبت صحتها، وفسرها الدكتور «جورج ملشتاين» بأبحاث أكدت أن الموسيقى تجعل خلايا ثغور النبات «ستوماتا» تتفتح لفترة أطول منفعلة بجمال الموسيقى، مما يزيد تفاعلاتها البنائية ويضاعف نموها فى فترات أقصر.

هذا عن أثر الغناء والموسيقى فى النبات، أما عن الإنسان، فإننى أتذكر مقولة للكاتب العظيم دوستويفسكى مؤداها: «مجرم كل من لا يحب الموسيقى»، وسيسارع بعض ضيقى الأفق ومضيِّقى الآفاق بالاستنكار طبعا، وتجريم وربما تحريم الموسيقى، ظنا منهم أن معنى الموسيقى وقفٌ على الهنك والرنك، والنط والحط، لكن لا، فالمعنى الحقيقى للموسيقى الذى يفهمه كل من يدرك بعض أعماق دوستويفسكى، هو التناغم الذى فى كل خَلق جميل، سواء كان فى كون رب الكون، الأرض والكواكب والمجرات وما هو أبعد، أو تجليات مخلوقات الله فينا ومن حولنا، كل المخلوقات، من حيوان ونبات وجماد، أو ما يبدو جمادا.

وفى مركز كل هذا الكون وكل هذه الكائنات يشمخ الإنسان، وهو المقصود تحديدا بمقولة دوستويفسكى، والتى أثبت علم النفس الحديث صحتها النبوئية، فهناك دراسة نُشِرت فى المؤتمر القومى للتعليم والفنون المنعقد فى أوكلاهوما شتاء العام 2000، أجراها الباحث «مارتن جاردنر» على ألف من رجال فى عمر الثلاثين تتبع سجلاتهم منذ كانوا أحداثا، وتبين له أن معدلات توقيفهم لارتكاب جرائم أو مخالفات قانونية توضح تناقصا كلما زاد عمق علاقتهم بالموسيقى، عزفا أو استماعا.

والإجرام هنا ليس بالضرورة القتل والسرقة والاحتيال، وإن كان يتضمن كل ذلك، لكنه أكثر من ذلك، فهو الاختيارات الفظة والظالمة للآخرين وللنفس لدى بعض الجانحين من البشر، وأخطرهم بالطبع من يكونون فى مواقع السلطة والنفوذ بقوة القهر والباطل، كما أن المقهورين والمنهوبين لاتُستبعَد بينهم حالات الإجرام بالتبعية، فالفساد معدٍ كالأوبئة، وقادر على النفاذ والوصول كأنما بقانون الأوانى المستطرقة، أو بسيكلوجية تماهى الضحية مع الجلاد، ولا نجاة من هذا الفساد كله إلا بصقل الذوق وإعلاء شأن الضمير، وهنا تجد الموسيقى مكانا لها ومكانة، ومرة أخرى، الموسيقى بمعنى التناغم فى كل جميل.

والجمال ليس تركيبا بسيطا حتى وإن بدا بالغ البساطة، فالجمال من الزهرة إلى الجبل، ومرورا بالفراشة والعصفور والغزال والإنسان، وتجليات كل هذه الكيانات والكائنات، هو توليف ربانى مذهل التعقيد ينتهى إلى تناغم تحسه أبسط النفوس البشرية وغير البشرية. وعلم الإيثولوجى، أى سلوك الحيوان، يرصد حالة فريدة للدببة القطبية وهى تتوقف طويلا فى تبتُّل شِعرى لتتأمل الجلال فى مشهد الغروب الساحر فى سهوب التايجا قرب القطب. ولأن الإنسان فيه من روح الله، وهذا ما ينبغى أن نعيه بعمق ونحرص عليه، لنكون أكثر كرامة، وأكثر تعاطافا مع غيرنا، وأكثر رفضا لكل عسف أو تعصب أو غرور.

هذا الإنسان عندما يغنى، أى يصنع تواليف تؤدى إلى الجمال، فى الفن، فى الصنعة، فى العلم، فى الطب، فى الحب، فى أداء أدوارنا فى الحياة بشرف، كل هذه أغنيات سياسة، بل سياسة رفيعة، وأرضية لتغيير بصير، فالسعى إلى التغيير دون هذه البصيرة، لن يعنى تغييرا إلا فى المظهر، أو وقوعا فى يد الغوغائية الأعلى صوتا والأكثر قدرة على التحشيد، سواء بإعلام زائف، أو استقطاب متعصب. لهذا أحتفل وأحترم كثيرا أنواعا من الخطاب فى الكتابة وغير الكتابة يراها البعض ترفا أو هوامش كونها لا تقتحم الخطاب السياسى المباشر، وهى ذروة فى خطاب السياسة.

نعم، توجد كتابات مهمة جدا، لكنها لا تحظى بالانتباه المتوجه معظمه للاعتراض السياسى فى قالب هجائى وساخط وساخن، كل هذا جميل ومطلوب قطعا، فهو هدمٌ واجبٌ لقلعة فساد كبرى توشك أن تنهار فوق رءوسنا، لكن بموازاة هذا الهدم المُنقِذ لابد من بناء بعيد النظر، بناء يستعيد الذوق الأصيل والمعرفة النبيلة من أجل المستقبل، مستقبل لا يكرر دوران عجلة المأساة التى لم تكف عن سحقنا جيلا وراء جيل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن نلوذ بأفضل ما فينا ككائنات إنسانية تحس بالتناغم الآسر فى كل جمال، فمن يتعود التآلف مع تناغم كهذا، لابد سيتنافر مع كل نشاز فى منظومات الحياة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، لهذا أنبه نفسى وغيرى إلى ألوان من الكتابة تُصغى لأنفاس الكون، وتنهدات الصدور، وأنات قلب البشر، وأوجاع النفوس والأجساد، كتابات تتقصى سحر اللمس، ودفء الهمس، قلب الأم، حيرة الأبناء، والتباسات التواصل، وهى جميعا فى رأيى كتابات سياسية بامتياز، سياسية من النوع الاستراتيجى الذى يصقل الوعى الأخلاقى والحس النقدى، فيؤهل ويؤهب لتغيير على أسس متينة وجميلة، ومن ثم راسخة.

«علمنى كيف أحب الزهرة، أحب الوطن»،
هكذا عبّر العقاد عن كل ما ذهبتُ إليه، فأوجز وأعجَز. لكننى أستأذن هذا الإعجاز التعبيرى فى ترنيمة لأشواق التغيير، فمطلب التغيير صار حالة جمالية لاشك فيها لأمة منهَكة سئمت القبح والكذب والتزوير واستشراء الفساد. ولقد كان جميلا ما شدت به «المنصورة» يوم الجمعة الماضى، وهى تبادر بممارسة حقها الإنسانى فى التعبير عن حنين لتغيير بات ضرورة حياة فى الحاضر وشرط وجود فى مستقبل. وكان أبهج ما لفت نظرى فى صور هذه الترنيمة المنصورية، هى الوجوه الشابة التى خرجت تلقائيا، وبتعقُّل سلمىٍ حضارى، لتحوِّل زيارة الدكتور البرادعى الشخصية للمحترَم والقيمة والحقيقى الدكتور محمد غنيم، إلى لحن نضارة يتغنّى بمطلب التغيير، فأثبتت المنصورة أنها لم تزل تفوح بعطر اسمها القديم: «جزيرة الورد».

فهل لايزال الزمن يوحى بما استلهمته قصيدة الأبنودى البعيدة؟

أظن أنه يوحى.. لايزال.

(ملحوظة: كتبت ما سبق وأرسلته للنشر مساء الإثنين 5 أبريل، لكننى بعد معرفة ما جرى فى اليوم التالى لشباب وشابات 6 أبريل، خاصة مطاردتهم وسحلهم وإلقاء القبض عليهم بواسطة عصابات رسمية مموَّهة بثياب مدنية، فإننى أعترف بإفراطى فى الرومانسية، وأحس بأن كلامًا آخر ينبغى أن يُقال).

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .