الصراع حول المستقبل في لبنان وإيران - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 1:08 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصراع حول المستقبل في لبنان وإيران

نشر فى : الإثنين 8 يونيو 2009 - 5:38 م | آخر تحديث : الإثنين 8 يونيو 2009 - 5:38 م

 فى أجواء موت السياسة فى العالم العربى، تعد الانتخابات اللبنانية والإيرانية شيئا مختلفا. على الأقل من حيث إنها الانتخابات الوحيدة التى لا تستطيع أن تعرف نتيجتها قبل إعلانها رسميا.


قل ما شئت بحق الحاصل فى البلدين، عن مدى بعده أو قربه من الديمقراطية. لكنك لن تستطيع أن تنكر هذه الحقيقة. ذلك أنه حتى صباح الاثنين «5/6» لم يكن بوسع أحد أن يعرف على وجه التحديد الطرف الفائز فى الانتخابات النيابية اللبنانية التى جرت يوم الأحد. وهل هو فريق 8 آذار أو 14 آذار. الكلام ذاته ينطبق على مصير الانتخابات الرئاسية الإيرانية التى يفترض أن تجرى يوم الجمعة 12/6، ويتنافس عليها أربعة أشخاص، لا يزال المحللون وعرافو السياسة يختلفون حول فرص كل منهم فى الفوز.

إذا أردت أن أكون أكثر دقة فإننى حين أقارن بين الانتخابات فى لبنان وإيران وبين نظيراتها فى بقية الدول العربية فإننى فى حقيقة الأمر أقارن بين المنقوص والتعيس أو بين العور والعمى. ذلك أن خياراتنا أصبحت محصورة بين واحدة فيها رائحة حرية وأخرى قائمة على التزوير تسوق لنا وهم الحرية. بحيث تقودنا الموازنة إلى القبول بالأولى والترحيب النسبى بها، وتفضيلها على الثانية. باعتبار أنه فى مثل هذه الحالة، فإن السيئ يقدم على الأسوأ، عقلا وشرعا.، ذلك أن أحدا لا يتمنى أن تجرى الانتخابات على أسس طائفية كما فى لبنان، ولا فى ظل مصفاة مسبقة للمرشحين تقصى أناسا وتجيز آخرين كما فى إيران. لكن حين تتم الانتخابات بعد ذلك بحرية وبدون تزوير، فإن ذلك يغدو وضعا متقدما بخطوات على البديل الآخر.


ليس صحيحا أن الانتخابات اللبنانية التى كتب هذا المقال قبل إعلان نتائجها، كانت فقط صراعا بين فريقى 14 و8 آذار، لأن الحضور العربى الإقليمى والدولى الغربى كان واضحا فى كل مراحل تلك الانتخابات. ذلك أنه لم يعد سرا أن دول «الاعتدال» العربى، وعلى رأسها السعودية ومصر، كانت موجودة بدرجة أو أخرى فى الانتخابات. وكان الحضور السعودى أقوى بكثير فى مجال التمويل لفريق 14 آذار، فى حين أن الدور المصرى الداعم لذلك الفريق كان سياسيا وإعلاميا بالدرجة الأولى. واللغط مثار حول توقيت إطلاق قضية خلية حزب الله فى مصر الذى تزامن مع المرحلة الأخيرة من الإعداد للانتخابات اللبنانية، وبدا أن من بين أهدافه التأثير على المزاج الانتخابى فى لبنان، بما يضعف موقف حزب الله فى المعركة. بالمثل فإن الدورين الإيرانى والسورى فى مساندة حزب الله وفريق 8 آذار المتعاون معه لم يكن بدوره سرا، كما أن تلك المساندة تراوحت بين ما هو مادى وسياسى،

الطريف أن الدعم الإقليمى للطرفين المتصارعين فى لبنان كان فى أغلبه سريا وغير معلن (رغم أن لا شىء يبقى سريا فى بيروت) فى حين أن الدعم الدولى لصالح فريق 14 آذار كان مشهرا ومعلنا فى أغلبه. إذ أضافه إلى الأدوار التى ظل يقوم بها سفراء الدول الأربع الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا وألمانيا، فإن بيروت ظلت طوال الأشهر الأخيرة تستقبل ضيوفا من الساسة الدوليين والغربيين، كانت رسالتهم واحدة، وهى الحث على مساندة فريق الحريرى وجماعته، والتحذير من التصويت لحزب الله والجنرال عون. وكان نائب الرئيس الأمريكى جو بايدن أرفع مسئول غربى زار لبنان لهذا الغرض. إذ لم يخف الرجل شيئا، فقد عقد اجتماعا مغلقا فى بيروت مع رموز فريق 14 آذار، وخرج منه ليطلق التصريح الذى قال فيه صراحة إن المساعدات الأمريكية للبنان سوف تتأثر بطبيعة الحكومة القادمة. وهو كلام له ترجمة وحيدة هى: إذا صوتت الأغلبية للحريرى وجماعته فإن "بَرَكة" المساعدات سوف تغرق الجميع، أما إذا فاز فريق حزب الله وعون، فلا ينبغى أن ينتظر اللبنانيون شيئا يذكر من الإدارة الأمريكية.

فى الوقت ذاته ظل الزوار الآخرون يتقاطرون طوال الوقت على العاصمة اللبنانية، من الأمين العام للأمم المتحدة إلى موفد خاص أرسله فى وقت لاحق. والمبعوث الأمريكى الخاص إلى الشرق الأوسط، إلى وزراء خارجية الدول الغربية المعنية بالملف. وحين حل موعد التصويت والحسم، جاء إلى بيروت وفد المعهد الوطنى الديمقراطى الأمريكى، ووفد دولى يراقب الفرز، ومائة مراقب آخرون يمثلون الاتحاد الأوروبى، فضلا عن خمسين مراقبا يمثلون عشرين دولة، أوفدهم مركز كارتر.

كان واضحا للعيان أن أولئك القادمين من كل صوب لم يجيئوا إلى بيروت محبة فى الديمقراطية وغيرة على نزاهة الانتخابات، ولكن ذلك الاحتشاد كان فى أغلبه تعبيرا عن حرص القوى الدولية على إنجاح فريق الحريرى (جماعة 14 آذار) لأن لها مصلحة حقيقية فى ذلك. وإذا أضفت إلى ذلك أن دول معسكر «الاعتدال» العربية تقف فى نفس الخندق داعمة لذات الفريق، فإن ذلك يسلط ضوءا كافيا على حقيقة الصراع وأطرافه الأصليين. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن المعركة الانتخابية فى لبنان أصبحت جزءا من الصراع الدائر فى الشرق الأوسط بين معسكرى «الاعتدال» الذى تقف فيه بعض الدول العربية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، والممانعة، الذى يضم دولا عربية أخرى مع عناصر المقاومة الوطنية وتدعمها إيران. وهو ذاته الصراع الحاصل فى الساحة الفلسطينية وفى الساحة العربية. إن شئت فقل إنه صراع بين مشروعين سياسيين مختلفين، ووجهتين متباينتين. ومن ثم فإنه من هذه الزاوية، يعد تجسيدا للصراع حول مستقبل المنطقة.


إذا كانت الانتخابات اللبنانية تعد نقطة تحول فى حسابات القوى الدولية والإقليمية، فإن الانتخابات الرئاسية الإيرانية تعد بدورها علامة فارقة فى حسابات القوى المحلية. وربما جاز لنا أن نقول أيضا إن القوى الإقليمية كانت مشاركة فى الانتخابات اللبنانية، لكنها ظلت متفرجة فى الحالة الإيرانية. وإذا سمحت الأجواء اللبنانية لبعض الرموز أن يستقووا بالخارج وأن يتباهوا بذلك أمام الملأ، فإن ذلك يعد انتحارا سياسيا لأى مرشح فى إيران.

هو فى إيران إذن صراع بين الداخل والداخل، درج كثيرون على اختزاله فى التنافس بين المحافظين والإصلاحيين. ورغم أن لذلك الصراع تجلياته بدرجات متفاوتة،خصوصا بعد رحيل الإمام الخمينى، أى طوال العقدين الأخيرين، فإن الجولة الحالية هى الأعنف والأكثر شراسة بين التيارين. والسبب فى ذلك أنه يدور بين مرشحين اقوياء اقرب الى الانداد.

فى البداية رشح حوالى 480 شخصا أنفسهم لمنصب رئيس الجمهورية، بينهم 42 امرأة. ولكن مجلس صياغة الدستور المكلف بالتحقق من توافر شروط وملاءمات الترشيح فى المتقدمين أجاز أربعة أشخاص فقط اثنان حُسبا على المحافظين وآخران من الإصلاحيين. الأولان هما أحمدى نجاد الرئيس الحالى ومحسن رضائى الرئيس السابق للحرس الثورى لستة عشر عاما خلت. أما الإصلاحيان فهما الشيخ مهدى كروبى رئيس مجلس الشورى السابق والمهندس حسين مير موسوى الذى رأس الحكومة فى الفترة بين عامى 1981 ــ 1989، وسواء كان ترشيح اثنين عن كل تيار تعبيرا عن تعدد مراكز القوى داخل الفريقين، أم أنه كان حيلة انتخابية لتشتيت الأصوات لإضعاف مركز أحمدى نجاد فى الجولة الأولى، بحيث يحتشد الآخرون ضده فى الإعادة، فالشاهد أن المرشحين الثلاثة لم ينافسوا بعضهم بعضا بقدر ما إنهم صوبوا سهامهم طوال الوقت ضد أحمدى نجاد، حتى قال الرجل فى مناظرته مع الشيخ كروبى إنه وجهت إليه خلال الحملة الانتخابية 32 ألف تهمة و "افتراء"!.

رغم أن المرشحين يفترض أنهم يمثلون الإصلاحيين والمحافظين، فإن شعاراتهم تداخلت بحيث أصبح يتعذر على المواطن العادى أن يعرف بالضبط من منهم الإصلاحى ومن المحافظ. فالمرشح الإصلاحى حرص على أن يبدو محافظا، وجولة الواحد منهم فى المدن والقرى مثلا أصبحت تبدأ بزيارة مقبرة الشهداء ثم إمام الجمعة وبعدهما يتجه إلى المسجد لكى يؤدى الصلاة ــ والمرشح المحافظ ما فتئ يتحدث عن الحريات الاجتماعية والعامة، حتى حرص أحمدى نجاد على التذكير بأنه هو من سمح للنساء بدخول "الاستاد" و تشجيع فى مباريات كرة القدم التى تجرى على أرضه . (المحافظون الحقيقيون فى مدينة «قم» اعترضوا على قراره وأوقفوه).

المناظرات العلنية التى تمت بين الرئيس الحالى ومنافسيه وبثها التليفزيون خلال الأسبوع الماضى كانت تقليدا جديدا اتبع لأول مرة، سمح للمجتمع أن يتعرف على ما فى جعبة كل مرشح. ومن الظواهر الجديدة أيضا أن النساء كان لهن دور بارز فى حملات المرشحين. أحمدى نجاد كانت شقيقته بروين نجاد وفاطمة رجبى زوجة المتحدث باسم الحكومة فى مقدمة الداعين إلى تأييده. وهذا ما فعلته الدكتورة زهرا رهنود زوجة مير موسوى، وليلى بروجردى حفيدة الإمام الخمينى ومعصومة خدنك مع محسن رضائى (الثانية زوجته) وفاطمة كروبى زوجة الشيخ مهدى كروبى، الذى كان من قادة حملته أيضا الصحفية جميلة كديور.

الاتهامات الأساسية التى وجهت إلى أحمدى نجاد ركزت على فشل سياسته الاقتصادية التى أدت إلى زيادة التضخم وارتفاع معدلات البطالة، وإساءة استخدام العوائد النفطية، وتوتير علاقة إيران بالعالم الخارجى، خصوصا حينما فتح ملف «المحرقة» ودخل بسببه فى معركة مع إسرائيل خسرت فيها إيران تعاطف العالم الغربى.

أما أحمدى نجاد فقد رد على ناقديه باتهامه لهم بأنهم موالون للغرب ومفرطون فى مبادىء الثورة، وبأن تشدده الذى يلام عليه كان سببا فى تحسين موقف إيران بشأن الملف النووى. ذلك أن حكومته «بأقل ثمن ممكن أو بثمن يقترب من الصفر تحققت أهداف السياسة الخارجية للبلاد»وعلى حد قوله. وفيما يخص عوائد النفط فإنه ذكر أنها ذهبت لصالح الفقراء الذين كان تحسين أوضاعهم على رأس أولوياته ووعوده.

لا تزال المعركة محتدمة، والاستطلاعات تتحدث تارة عن تقدم «مير موسوى» على «أحمدى نجاد»، وتتنبأ تارة أخرى باحتمال الإعادة بين الرجل.


كما رأيت فالمعركة شرسة فى إيران ولبنان، رغم التباينات بين الحالتين التى سبقت الإشارة إلى بعضها فيما خص موقف القوى الإقليمية والدولية فى كل منهما. لكن هناك فروقا أخرى يتعين الانتباه إليها، منها مثلا أن الاختلاف بين المرشحين فى إيران هو حول الوسائل وليس المقاصد. بمعنى أن الجميع يتحرك تحت مظلة الثورة الإسلامية ومبادئها. كما أن اللعبة السياسية هناك لها سقف يتمثل فى الدور الذى يؤديه المرشد فى ضبط المسار العام. لكن الوضع مختلف تماما فى لبنان، حيث لا توجد قواسم مشتركة بين الطرفين المتصارعين، ويتحرك كل منهما باتجاه معاكس للآخر. ثم إن السقف هناك محكوم بقواعد اللعبة الدولية، ولا دخل للأطراف المحلية فيه. من الفروق المهمة أيضا أن الخلاف بين التيارين فى إيران سياسى وفكرى بالدرجة الأولى. لكنه فى لبنان لم يخل من مسحة مذهبية حرصت أطراف عدة على إذكائها، فقد اصطف فيها أغلب "أهل السنة" فى جانب واصطف أغلب الشيعة فى جانب آخر، كما انقسم الموارنة فيما بينهم. من تلك الفروق كذلك أن نتائج الانتخابات فى إيران لن تؤثر كثيرا على موازين القوى فى الشرق الأوسط، أما نتائج انتخابات لبنان فسوف ترجح كفة على أخرى، سواء فى الاشتباك الحاصل الآن بين دول «الاعتدال» ودول الممانعة، أو فى الموقف من المقاومة بشكل عام. وعلى ذكر الانقسامات فهى فى إيران ليست بين إصلاحيين ومحافظين فحسب، ولكنها أيضا بين نخبة فى المدن تقف وراء المهندس مير موسوى وقطاع عريض من العوام الذين ينتشرون فى القرى يقفون إلى جانب أحمدى نجاد. لكن هذا الاختلاف «الطبقى» إذا جاز التعبير ليس قائما فى لبنان، الذى اخترق فيه الاختلاف المذهبى كل الطبقات.
ذلك كله لا ينبغى أن يحجب الحقيقة الأهم التى تتمثل فى أن الناس فى نهاية المطاف وعند الحد الأدنى هم الذين يختارون الفائزين، لكن هذه الحالة على تواضعها تظل متجاوزة للحد الأقصى فى أقطار أخرى، أعرفها وتعرفها.


فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.