يتقمصنى فى الشهور الأخيرة شعور داخلى عميق بالأسى بل يمتد الأمر ليراودنى فى الأسابيع الماضية نفس الهاجس خصوصًا كلما احتدم الصراع بين أطراف القضية الفلسطينية إلى جانب التصعيد الجنونى من جانب إسرائيل بدعم أمريكى أعمى لا يكاد يدرك طبيعة المصالح الأمريكية ذاتها فى المنطقة العربية، ولقد سيطر علىّ وعلى كثيرين غيرى شعور عميق بأن الصراع أكبر من القضية الفلسطينية وأن دائرة المواجهة أوسع من ذلك بكثير، فأرى أحيانًا أن ما تجرى هى حرب على الأمة العربية بأسرها بل ربما تتسع لتكون على العالم الإسلامى أيضًا، إذ إن مخزون الكراهية والخطاب المعادى للعرب والفلسطينيين يفوق الخيال ويعطى انطباعًا بأن الصراع طويل وأن الحرب ممتدة ومن الصعب الحكم على نهايتها لأن أطماع الدولة العبرية والحركة الصهيونية أطول عمرًا مما نرى وأكثر بعدًا مما نشهد، بل تبدو أحيانًا الكراهية تطل برأسها بين الغرب وشعوب الشرق أكبر مما نرى وأعمق مما نتصور.
انطلاقًا من هذه الرؤية فإننا نشعر بأن الرواية لم تتم فصولاً وأنها أكبر من ذلك فى جذورها البعيدة وحضورها وتأثيرها الذى لم يتوقف يومًا عن نشر الإرهاب واستعراض القوة ومواصلة العدوان الإجرامى على الأطفال والنساء واستخدام أساليب الترويع والتجويع لقهر إرادة الشعب الفلسطينى وتحقيق أهدافٍ يصعب رؤيتها من بعيد وإن كنّا نشعر بها فى كل وقت، ونريد أن نؤكد فى هذا المقال على الجوانب العالمية والمظاهر الدولية المرتبطين بجذور الصراع سياسيًا وتأثيره إقليميًا، وحتى لا تتوه منا بوصلة الحديث وأن نقنع بالتركيز على الجوهر من الداخل فقد بدأت إرهاصات هذا الصراع منذ قرنين من الزمان وطاف الصهاينة الآباء بدوائر السياسة ومراكز صنع القرار وقواعد الحكم فى ظل الإمبراطورية العثمانية وحاولوا التسرب إلى بلاط محمد على وبلاط الإمبراطور نابليون بونابرت ثم تناوبوا الضغط على خلفاء آل عثمان وصولا إلى السلطان عبد الحميد الثانى الذى رفض مطالبهم فى وطن قومى لليهود بفلسطين رغم أننا نرى أن رده عليهم لم يكن قاطعًا ولم يتخذ إجراءً مبكرًا لمقاومة ذلك السرطان الجديد، ولعل سبب ذلك أن دولة الخلافة العثمانية كانت تترنح فى ذلك الوقت وأن تركة رجل أوروبا المريض كانت فى آخر عهدها وأكثر سنوات وجودها ضعفًا، لذلك فإننا نتصور أن الحركة الصهيونية امتدت لعقود طويلة واختبرت محاولات متعددة فى أرجاء الدولة العثمانية ثم كانت الفائدة الكبرى للمدرسة الصهيونية هى تلك المرتبطة بتجربة الحربين العالميتين الأولى والثانية حيث اكتسب منها الصهاينة خبرات متعددة واستطاعوا أن يقرءوا خريطة المستقبل من خلال رجالهم بل وجواسيسهم فى أنحاء المنطقة، لذلك فإننا نشير فى عجالة إلى الملاحظات التالية:
أولاً: إننى أزعم أن إيمانى بنظرية المؤامراة كان محدودًا ومهتزًا وكنت أرى فيه محاولة للهروب من الواقع على الأرض ونسبة كل شىء إلى قوى خفية وهى ما نطلق عليه «نظرية المؤامرة»، وكنت أدعى دائمًا أن المؤامرة موجودة فى التاريخ الإنسانى ولكنها ليست بالضرورة المحرك الإساسى لذلك التاريخ أو الجانب المفصلى فى حركة الأمم والشعوب، وها أنا ذا أراجع نفسى اليوم لكى أزعم مترددًا أن تاريخ البشرية سلسلة متصلة من المؤامرات فى ظل مسار طويل للصراعات القائمة والأحداث الوافدة، ولا يخالجنى شك فى أن الحصاد الإسرائيلى حاليًا هو نتاج لفكر المؤامرة وتعبير واضح عن حصاد السنين بما زرعته الحركة الصهيونية فى الشرق والغرب على السواء.
ثانيًا: إن الولايات المتحدة الأمريكية ذلك الوافد القوى على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية هى التى قادت الصراع إلى المنحنى الخطير الذى تمر به حاليًا، ولعلى أصدق بعض المسئولين الأمريكيين الذين قالوا إن إسرائيل لو لم تكن موجودة لاخترعنا وجودها باعتراف صريح بمسار المؤامرة التاريخية الكبرى على هذه البقعة المهمة من العالم مهبط الديانات وملتقى الثقافات وقلب الشرق الأوسط وأرض الثروات الطبيعية الضخمة فضلا عن الموقع الجغرافى الذى يمثل همزة الوصل بين الشرق والغرب، ولذلك فإن تغيير تعبير الشرق الأدنى ليصبح تعبير الشرق الأوسط هو تأكيد لذلك المعنى الذين نقوله الآن، وهو إحساس العالم الجديد فى غرب الأطلنطى بالقيمة الاستراتيجية للوضع الجيوسياسى للمنطقة وفى قلبها أرض فلسطين على ساحل البحر الأبيض المتوسط بحيرة الحضارات وأجمل بقاع الأرض وأكثرها ثراءً بالمفهوم التاريخى وتألقًا للطبيعة وروعة للطقس فضلاً عن حشد كبير من الدعاوى الدينية والأراجيف الصهيونية التى برعت إسرائيل فى تسويقها وترويج انتشارها.
ثالثًا: لقد برع الصهاينة تاريخيًا فى لعب الأدوار التى تؤدى إلى تحقيق مآربهم والالتقاء مع مصالحهم، بل لقد وصل الحد بهم إلى اختراع المصادفة التاريخية واختلاق الأوضاع المؤدية إلى تحسين صورتهم، وإظهار أن الدولة العبرية جزء من حق تحقيق المصير وأنها نبوءة تاريخية تلمودية لابد أن تتحقق وفى خضم هذه الأكاذيب وتلك الأراجيف مضت الدعاية الصهيونية فى طريق يتجنب أى إشارة للعلاقة بين الماسونية والصهيونية ويبتعد إلى حد كبير عن المسار التاريخى الصحيح للوصول إلى المنزلق الذى أوصلتنا إسرائيل به إلى مستنقع آسن فى غزة وغيرها من الأراضى الفلسطينية حيث تتتابع قوافل الشهداء وتمضى الأحداث لكى تصبح ما بعد السابع من أكتوبر 2023 كاشفة بشكل كبير لما كان معلومًا لدى البعض وخافيًا عن البعض الآخر، وتصل حدة الجرائم إلى ما نشهده من مجازر بشرية لا نكاد نعرف لها فى التاريخ المعاصر مثيلا، ويبدو المشهد الآن كارثيًا بكل المقاييس فالجوع الذى ضرب الأطفال فوق تراب غزة سوف يبقى وصمة عار فى تاريخ إسرائيل وحلفائها بل سيصبح إشارة سلبية أيضًا إلى العلاقة المفقودة بين إسرائيل فى جانب والشرعية الدولية والمشاعر الإنسانية فى جانب آخر.
رابعًا: إننا لا نكاد نشهد مثيلا لتلك العلاقة القوية بين نظرية المؤامرة وبين ما نشهده من تطبيق عملى لها على امتداد قرن ونصف على الأقل مثلما هو الأمر للصراع العربى الإسرائيلى والضغوط التى تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطينى فى فظاعة وبشاعة فلقد حملت الأيام الحالية لنا تعبيرات لم يكن لها وجود فى قاموس المنطقة فنحن نشهد للمرة الأولى تطبيقًا جديدًا لحرب التجويع والانتقال من مفهوم التهجير القسرى لمفهوم التهجير الطوعى عن طريق تفريغ غزة من مقومات الحياة فيها وسبل الوجود الأدنى على أرضها بعد أن استطعاعت إسرائيل أن تجعل سياسة أكبر دولة فى العالم وهى الولايات المتحدة الأمريكية مطابقة لسياستها ومرادفة لأفكارها على النحو الذى يشهده كل من يعاصر تلك المرحلة من التاريخ المزرى للبشرية بظهور هولوكوست جديد أشد بشاعة وأكثر عنفًا.
.. هذه رؤية موضوعية للعلاقة التبادلية بين الحركة الصهيونية ونظرية المؤامرة وفيها أشهد بوضوح أن العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى ليس وليد اليوم أو الأمس ولكنه نتاجٌ لطريق طويل قطعت فيه الصهيونية العالمية أشواطًا بعيدة واستغلت فى خبث ودهاء ومكر والتواء كل عوامل التأثير والدعاية حتى تحقق لإسرائيل جزءًا من مخططاتها وتكشف للعالم بأسره خيوط المؤامرة طويلة المدى بعيدة المفعول والتى نسجها الآباء الصهاينة من أجل سرقة وطن واختطاف شعب وتجويع أصحاب الحق لتشتيت آمالهم وبعثرة أفكارهم والوصول إلى المأساة التى نشهدها اليوم فى مشهد عبثى وحزين لم نرَ له مثيلاً من قبل!
نقلا عن إندبندنت عربية