يتوهم البعض أن الفروق بين السنين حادة وقاطعة، أى أنه فى ليلة الحادى والثلاثين من ديسمبر تعطى الدنيا ظهرها لعامٍ مضى وتنظر فى اتجاه جديد لعامٍ مقبل، وهذا بالطبع خطأ واضح لأن النصف الأول من يناير هو امتداد طبيعى للنصف الثانى من ديسمبر والأحداث لا تأتى بشكل قاطع وإنما ترتبط ارتباطًا عضويًا، فالبشر هم البشر والطبيعة هى الطبيعة والماضى يسلم للحاضر والحاضر يستدعى المستقبل، وينطبق هذا الأمر كذلك على العلاقات بين الدول، وهى طبيعة الحركة فى الكون، ولا يمكن أبدًا أن نتصور أن مسار البشرية يحمل مطبات ومفاجآت طوال الوقت بل إن قياس الحاضر على الماضى يؤكد ما نذهب إليه ويوضح ما نقصده وهو أن الدنيا لا تتحرك بشكل عبثى ولكنها تقوم على نظام كونى تحار المخلوقات فيه.
وينفرد الخالق الأعظم عز وجل بصناعته وإدراك مسيرته وحركته، ولقد كان عام 2025 عامًا كاشفًا لكثير من الحقائق ولكنه لم يكن منشأ لعدد منها، فالحرب على غزة ما زالت مستمرة وإن كان قناع «وقف إطلاق النار» يغطى مساحة خبيثة من الإعلام الإسرائيلى، كما أن الحرب فى السودان ازدادت توهجًا واشتعالًا، كذلك فإن الصراع الروسى الأوكرانى لا يزال يراوح مكانه.
ولعل الذى يميز عام 2025 هو أنه عام الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بامتياز، فقد برز فيه بشخصيته المتفردة وتصرفاته ومواقفه الغريبة على نحو شد الأبصار وسيطر على الكثير من العقول، فقد جاء ترامب بأجندة مختلفة وفكر مغاير واختار لنفسه أسلوبًا خاصًا فى التعامل مع أقرانه من الرؤساء والقادة وفى تسفيه أقرانه من الزعامات الأمريكية ذاتها، وبذلك أصبح ذلك الرئيس يشكل أسطورة لا يعرف أحد مداها وكأنما تغيّر العالم بوصوله إلى المقعد الأول للسلطة فى البيت الأبيض متصورًا أنه قادر على حل كل المشكلات والتعامل مع كل الأزمات وتفسير كل المعضلات، وظل يدق على كل مشكلة من المشاكل الكبرى فى العالم بطرقات ذاتية متوهمًا أن بيده مصباحًا سحريًا ينير الطريق وخاتمًا سريًا يفتح أمامه كل الأبواب.
وما زال ترامب يذكر البشرية كلها وفى كل مناسبة تقريبًا بأنه قد قام بحل معظم المشكلات التى كان يتعثر فيها أسلافه فى بلاده وغيرها من عواصم الدول الكبرى فى العالم المعاصر، وهو يركز بشكل أساسى على مشكلة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية ثم على الصراع الروسى الأوكرانى ويضيف إليهما ما تقذف به الظروف والأحداث ليقع بين يديه، مثلما هو الأمر بالنسبة للوضع فى السودان وما هو مؤثر على الصراع بين التكنولوجيا والحياة الطبيعية حتى إننا لا نكاد نعرف كيف سوف تمضى هذه السنون بتلك السياسات الطارئة على البيت الأبيض والتى لا تكاد تكون تعبيرًا عن الشخصية الأمريكية وأساليبها فى القيادة والحكم! فالرجل فى النهاية محكوم بمجموعة من المفاهيم الدينية والمعتقدات الذاتية تجعله يمضى فى طريقه على النحو الذى نشهده، ولعله من حسن حظ العرب أن الكيمياء بين واشنطن والرياض فى أفضل أوضاعها وبينها وبين القاهرة قبول عام لا يمكن توقع مساره القريب أو البعيد، فالرجل يمضى على الطريق الذى ساقته إليه الظروف متصورًا أن بيديه مفاتيح كل شىء أو أنه مبعوث العناية الإلهية لمواجهة الصراعات بقدراته الخارقة كما يتوهمها، ولا بأس من ذلك كله إذا كان الرجل ملتزمًا بالأبعاد الطبيعية لتلك المشكلات المعاصرة، والتى تقع فى مقدمتها:
أولًا: ليس من قبيل الادعاء أن نقول إن صورة الولايات المتحدة الأمريكية متلازمة مع سياسات الرئيس الحالى ترامب والدعم المطلق الذى يقدمه لإسرائيل خصوصًا فى مجازر غزة والتى لا تعطى انطباعًا إيجابيًا لدى الرأى العام العادى فى مختلف دول العالم، فهناك شعور أن واشنطن تعتمد سياسة القوة ولى الذراع وإجبار الآخرين على الخضوع لما تريد، ولعل نموذج تصرفاتها فى أمريكا اللاتينية وفى مسألة «فنزويلا» تحديدًا هو تعبير عن التعرية الحقيقية للسياسة الأمريكية المعاصرة التى لا يهمها إلا فرض الهيمنة وامتداد السطوة، فالولايات المتحدة الأمريكية التى كانت دائمًا مصدر إلهام للحريات ومركز إشعاع للعالم الجديد قد تغيرت الآن كثيرًا، وأصبحت تمضى بأسلوب مختلف تستعدى فيه الكثير من الدول فى وقت واحد، لذلك فإننى أزعم أن عام 2025 الذى يلملم أوراقه الجافة ويرحل مع نهاية الخريف وبداية الشتاء البارد أقول إن ذلك يوحى بأنه عام لم يكن سعيدًا على كثير من الأمم والشعوب، وها نحن نحصد فى العام الجديد نتائج ذلك العام الذى مضى معترفين أن حسابات المكسب والخسارة ليست فى صالح الجميع، وهو أمر يدعونا إلى التأكيد على أن العام الماضى كان عامًا كاشفًا بامتياز فلقد أصبحت الأمور فيه أكثر وضوحًا والخطوط أكثر فاعلية على مختلف المستويات الدولية والعالمية، ولم تبرز فى ذلك العام إلا نتائج سياسة دونالد ترامب وأفكاره المعروفة التى تميل فى معظمها إلى العنف الظاهرى فى تلويح واضح بأن العصا الأمريكية جاهزة لها ولحلفائها فى كل وقت.
ثانيًا: إن عام 2025 كان هو عام اللعب على المكشوف فقد خرجت فيه المظاهرات فى شوارع العواصم الكبرى والمدن الرئيسية، لتسجل اعتراضًا قويًا على ممارسات إسرائيل وعدوانها السافر والمستمر على شعب غزة الأعزل، والعالم كله يتابع خرق إسرائيل لاتفاقيات وقف إطلاق النار وترامب يكرر مزاعمه بأن السلام قادم وأن العدل مطلوب، بينما تجرى الأمور على الأرض بشكل مختلف على نحو يدعو إلى القلق فى أرض فلسطين وساحات الشرق الأوسط، نعم لقد تمكنت إسرائيل من تحجيم حزب الله فى لبنان وأرهقت حركة حماس تمامًا ونزعت جزءًا كبيرًا من اهتمام الدول العربية بقضيتهم العادلة، وجاء الاستسلام للأمر الواقع والقبول بما يجرى دوليًا وإقليميًا، ولا يزال أمام الرئيس الأمريكى أعوامًا ثلاثة يسعى فيها إلى استكمال مسيرته وإقرار سياسته ومواصلة تقديم الدعم المطلق لدولته الصغيرة المدللة التى تنتهج سياسات العنف والترهيب وأعنى بها بالطبع دولة إسرائيل، التى سعينا إلى السلام معها ولم ننجح وقبلنا بوجودها فلم يحدث أى تغيير، بل أكدنا مرارًا رغبتنا فى التعايش المشترك على أساس الحل العادل الذى يقوم على منطق الدولتين، ولكن ذلك كله لم يحقق ما نصبو إليه.
ثالثًا: لقد نجحت السياسة الترامبية فى دعم النظام السورى الجديد وتمكنت من إخراج دمشق من عزلتها بل وفتحت أمامها أبواب الأمل وصنعت بشكل واضح معزوفة جديدة لذلك القطر العربى الهام الذى يعتبر ركيزة أساسية فى السلام القادم فى ظل الظروف الصعبة الحالية التى تمر بها المنطقة، ولقد كان لولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان دور كبير فى تحقيق الاستقرار القادم للدولة السورية، لكى تصبح بذلك شريكًا فاعلًا فيما يمر به الشرق الأوسط من تطورات وتغيرات لا تخفى على أحد.
رابعًا: إننا لا نجادل كثيرًا فى أن الولايات المتحدة الأمريكية هى التى تقود العالم المعاصر رغم توجهات العزلة فى عناصر بعض سياساتها ورغم الإحساس العميق بأنها قد اختارت بالفعل لنفسها صورة مختلفة عما كانت عليه سابقًا، كذلك فإننا نتذكر الأحداث التى جرت فى الشرق الأوسط وغرب آسيا خصوصًا الحرب الإيرانية الإسرائيلية، والتى كشفت عن دعم أمريكى كامل للدولة العبرية ورغبة أكيدة فى المضى فى المشروع الصهيونى الذى لم يتوقف منذ أكثر من قرن ونصف قرن، وها هو الحصاد يطرح نفسه على الساحات المختلفة للسياسات المناوئة لغطرسة إسرائيل مدعومة من القوى الكبرى للعالم المعاصر مهما قيل فى هذا الشأن.
هذه قراءة فى أيام تغادرنا فيه سنة ميلادية ونستقبل أخرى ولا بأس من ذلك إذا تأكد لنا أن ما يجرى هو تطور طبيعى قد يصل بالجميع -رغم الانتصارات والانتكاسات- إلى غدٍ أكثر إشراقًا وأعمق شعورًا يسود فيه العدل ويستقر السلام.
نقلًا عن إندبندنت عربية