مواسم قتل الكتب - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:17 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مواسم قتل الكتب

نشر فى : الأحد 9 مارس 2014 - 8:40 ص | آخر تحديث : الأحد 9 مارس 2014 - 8:45 ص

مارس هو شهر الحرب على العراق، وهو أيضا الشهر الذى انفجرت فى خامس أيامه سيارة مفخخة بشارع المتنبى الشهير ببيع الكتب، ودمرت جانبا من مقهى الشابندر التاريخى، إذ فقد صاحبه ــ الحاج محمد الخشالى ــ أربعة من أبنائه وواحدا من أحفاده جراء الانفجار الذى أسفر عن مقتل 30 شخصا وإصابة حوالى مائة. كان ذلك فى الخامس من مارس عام 2007، مع إشتداد النزعات الطائفية وكثرة الانفجارات.. حتى الآن وبهذه الصياغة يبدو الأمر وكأنه مجرد خبر ضمن العديد من الحوادث التى تقع يوميا فى العراق، منذ الغزو دون أن يلتفت إليها أحد، بحكم العادة والروتين، لكن تاريخ الشارع الذى حدث فيه الانفجار هو ما جعل الصورة تختلف، لأن الشارع هو أحد عيون المدينة ومناراتها الثقافية.. من خلاله يمكن تدوين تاريخ بغداد المعاصر والوقوف على نبض الحياة فيها، وهو ما يحاول عمله مجموعة من الفنانين والمؤلفين عبر كتاب ومعرض متجول «شارع المتنبى يبدأ من هنا»، اللذان تحتفى بهما حاليا الجامعة الأمريكية بالقاهرة، إذ تم افتتاح المعرض الفنى بحضور الشاعر والروائى والأكاديمى والمترجم العراقى ــ سنان أنطون ــ المقيم فى نيويورك.

•••

أسترجع كلام أنطون عن الشارع عندما كتب نصا نشرته جريدة السفير اللبنانية فى مايو الماضى بعد زيارته لبلاده فى إبريل، وقد رحل جميع أفراد عائلته قبل سنوات قليلة، وبيع البيت الذى نشأ فيه.. اضطروا إلى الهجرة كأبطال روايته الثالثة «يا مريم» التى تطرق فيها إلى رحيل مسيحى العراق والأقليات فى ظل الأوضاع الراهنة. روى فى نص «السفير» كيف كان البيت هو أولى المحطات فى جولته التفقدية، ظن أنه تاه فى البداية غير أنه تعرف على الشارع الذى كان يقطعه فى طريق العودة من المدرسة، لا أثر للجهنمية التى كانت تتسلق جدار منزلهم.. الجدران تعلو والأشجار تموت فى حييهم. ثم يتساءل: «هل تتذكر الشوارع كيف كانت فى الماضى؟ هل تحن إلى ماضيها؟ هل تعانى هى أيضا من إغواء الذاكرة الانتقائية، فتنسى عذاباتها السابقة؟ جسد المكان متعب، يئن فى الطريق إلى شارع المتنبى. كانت الكثير من المحال مغلقة باستثناء مطعم صغير ومحل كبير يحفل بالكراسى والأدوات الخاصة بالمعاقين».

•••

هذه شهادة تأتينا ضمن شهادات آخرى تجعلنا نزور شوارع بغداد التى تباعدت ونأت بنفسها، بل أصبحت تفصلها عن بعضها كتل وحوائط خرسانية ونقاط تفتيش.. لم يعد شارع الرشيد كما وصفه قبل سنوات ياسين النصير فى كتاب صدر عن دار المدى، بل صار نصا يؤرخ للمكان المدمر، من باب المعظم حتى الباب الشرقى. يتحدث النصير عن منطقة باب المعظم وما جاورها امتدادا إلى شارع المتنبى ومرورا بعشرات العطفات الصغيرة والكبيرة وكيف حملت تاريخ الغناء والطرب العراقى، لم يكن انفجار شارع المتنبى قد دوى وقتها، بل كان الشارع مكان جاذب للمكتبات، تختلط فيه الدور والمحلات والناس.. لم يكن مقهى الشابندر قد أغلق أبوابه بعد الظهيرة، على خلاف ما اعتاد رواده قبل الحرب، ولم يكن الحاج محمد الخشالى قد علق صور شهداء عائلته على الجدران، جنبا إلى جنب مع اللوحات التراثية وأخرى تعكس الحياة الاجتماعية.. لم تكن الكلمات قد احترقت بين ضفتى كتاب وتصاعد الدخان فى الهواء، ولم يكن الناس يخافون التوجه إلى بسطات ومكتبات المتنبى، كما اعتادوا أيام الجمعة، حين يرص الباعة كتبهم على الأرفف ويرددون أبياتا للمتنبى بهدف جذب المارة فى ذلك الشارع الذى لا يتعدى طوله كيلو مترا حتى الوصول إلى نهر دجلة، وهو على هذه الحال منذ أن افتتحه الملك الفيصل الأول فى عام 1932.

•••

يقال إن كتب التاريخ المعاصر للعراق حتى الستينيات بدأت مجددا فى الظهور داخل سوق المتنبى بعد أن كان يصعب العثور عليها تحت حكم صدام حسين، وإن المؤلفات الدينية عرفت رواجا طاغيا بعد دخول قوات التحالف، ثم تراجع هذا الإقبال مؤخرا.

•••

علاقة الناس بالشارع تختلف عن علاقة السلطة به، فهذه الأخيرة تربطه بمراسم المحذور والممنوع، أما الناس فيتخذونه مكانا للحرية والتسامح، فقد كان دوما يتسع للسنة والشيعة على حد سواء، كما ضم مقهى الشابندر ركنا للشعراء وآخر للتشكيليين، وثالثا للعلوم السياسية، إلخ.. لكن يتذبذب موقف السلطة من الشارع، خاصة حين يمثل قيمة ثقافية، فمثلا الحكومة العراقية وفرت حوالى 4.3 مليون يورو لإصلاح ما أفسده الانفجار المشؤوم وأعادت افتتاح الشارع فى العام التالى، لكن حينما دعا نشطاء فى 2012 إلى مبادرة «أنا أقرأ.. أنا عراقى» للتصالح مع الكتاب خارج دوائر النخبة ودأبوا على تنظيم فعاليات مختلفة بعيدا عن الرعاية الرسمية حاولت التضييق والسيطرة، بل وشنت حملة لإزالة التجاوزات فى شارع المتنبى شملت رفع الأكشاك ومعروضات الكتب والمطبوعات على الأرصفة دون إنذار مسبق، فى سبتمبر من العام نفسه. والغريب أنه تقريبا ذات التوقيت الذى قامت فيه الأجهزة الأمنية والمحلية المصرية بحملة مماثلة لإزالة أكشاك الكتب بشارع النبى دانيال بالإسكندرية، وتراكمت أكوام من الكتب على جانبى الطريق ودهستها الجرافات.. تشابه قاتل فى طريقة التفكير والتصرف، ودليل قاطع على أن الشوارع تعيش كمدنها، فعندما تكون المدينة غير مستقرة يحمل شارعها قلقها.

التعليقات