الجريمة.. كاملة - إسعاد يونس - بوابة الشروق
الأحد 2 يونيو 2024 12:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجريمة.. كاملة

نشر فى : الخميس 9 يوليه 2009 - 7:50 م | آخر تحديث : الخميس 9 يوليه 2009 - 7:50 م

 حاول أن تقف أمام شخص بحيث تفصل بينكما مسافة ذراع.. تخيل أن بيدك سكينا.. احضر ستوب ووتش.. اضغط زر البدء.. ابدأ فى تحريك ذراعك رافعا خافضا إياه وكأنك تقوم بطعن زميلك الواقف أمامك..

مع افتراض أنه يقف ثابتا أمامك ولا يحاول مقاومتك.. تخيل أنك تطعنه ثمانى عشرة طعنة.. انظر فى الـ ستوب ووتش.. كم من الوقت استغرق طعن زميلك الواقف كالتمثال بلا مقاومة؟.. أقل من ثمانى عشرة ثانية؟.. بافتراض أن كل طعنة استغرقت ثانية واحدة؟..

الآن افترض أن زميلك يقاوم ويصرخ.. وأن حركة ذراعيه وثيابه قد تعيق انسياب السكين فى اللحم فى بعض الطعنات.. وافترض أن طفلا صغيرا يصرخ فى فزع فيلفت انتباهك ويجعل طعناتك تطيش حتى تصيبه مع اختلاف الأطوال.. ثم افترض أن هناك رجلا فى مثل حجمك هو الآخر يقاومك..

فتزيد طعناتك عن الثمانية عشرة لتضيف إليها طعنات أخرى توزعها ما بين زميلك الواقف أمامك وبين الرجل الذى يقاومك وبين الطفل الذى يصرخ.. كم من الوقت ممكن أن تستغرق هذه المذبحة؟؟..

من المؤكد أن علماء الجريمة يستطيعون أن يفيدونا فى تقييم الوقت الذى استغرقته هذه المذبحة..

الآن تخيل أنك فى قاعة محكمة هادئة أنيقة مكيفة منظمة بها قاض وحاجب ووكيل نيابة وهيئة تحقيق وحراس ومتهمون ومحامون وجمهور.. وأن كل المشهد السابق يتم فى هذا المكان والجو.. ينتهى المشهد باقتحام شرطى للقاعة وبعد لحظة يصاب بالذعر من المذبحة التى أمامه فيشهر مسدسا ويصوبه فى فزع إلى الشخص الذى شك فى مظهره بفعل رصيد ومخزون راسخ فى عقله الباطن.. ويطلق عليه النار.. فصيب المعتدى عليه ولا يصيب أو حتى يشك فى الجانى الفعلى..

إذا أردنا تنفيذ مشهد كهذا عندنا فى صناعة السينما.. فإننا نصوره من عدة زوايا وفى عدة لقطات متنوعة تعكس الحالة قبل وأثناء وبعد التنفيذ.. مستعرضين سلوك الشخصيات وبشاعة الجرم.. مع التركيز الشديد على تفاصيل الطعنات والجروح التى تسببها فى جسد الضحايا.. وكم الدماء التى تنزف.. ولكن أهم العناصر التى نبرزها هنا هى ردود الأفعال..

تستعرض الكاميرا كم الهلع والفزع الذى يصيب الحاضرين.. ومحاولات المنع والتفريق والإنقاذ.. وفى الغالب تركز الكاميرا من ضمن ما تركز عليه كم الحرس الموجود فى القاعة وتحركاتهم السريعة على افتراض أنهم مدربون على مطاردة المجرمين وشل حركتهم حتى وإن كانوا عزلا من السلاح..

فنحن فى النهاية فى قاعة محكمة ولسنا فى ساحة التزلج على الجليد.. وهى محكمة تحاكم مخطئين من مختلف النوعيات.. وتصدر أحكاما فى جرائم متنوعة حتى وإن كانت بسيطة.. يعنى احتمالات التشابك بالأيدى أو التعدى اللفظى وارد بين المتقاضين.. وبالتالى يفترض استعداد الحرس الموجود فى القاعة لفض هذه الاشتباكات..

فى صناعة السينما وفى مشهد من هذا النوع.. إذا كان توقيت المشهد يبدأ من ثلاثين ثانية ويطول عن ذلك فيصل إلى دقيقتين مثلا.. يعامل على أنه توقيت طويل جدا فى عمر الحدث قد يأخذ يوما كاملا أو يزيد فى تصويره..

أقول هذا لأن الانطباع الذى استقر بداخلى مما وصلنا من معلومات عن المذبحة التى راحت ضحيتها ابنة مصر مروة الشربينى.. أن الموقف لم يكن شبيها بأى موقف مماثل مما اعتدنا تصويره فى الأفلام.. فإذا افترضنا أن المذبحة استغرقت دقيقتين.. فمعنى ذلك أن الموجودين بالقاعة لم يأتوا بأى حركة..

وكأنهم أصنام استقرت على رؤوسهم الطير.. بما فيهم الحرس والقاضى والهيئة القضائية بمكوناتها.. وحتى الجمهور.. الكل لم يفعل شيئا.. لأن الإجراء من وجهة النظر الدرامية طويل جدا.. ثمانى عشرة طعنة غير تلك المتفرقة هنا وهناك.. أين كان البشر الموجودون بالقاعة؟!!..

إذا افترضنا أن الجمهور المسالم أصيب بالذعر وصرخ وابتعد عن المشتبكين.. فأين كان القاضى؟.. أين كان رجال الادعاء.. ثم والأهم.. أين كان الحرس؟.. أحدهم كان فى قاعة المحكمة.. وكان يحمل سلاحا.. ولكنه كان أحد شهود القضية.. فى أى جانب كان يشهد؟.. نفترض أنه كان يشهد فى صف الزوجة..

فلماذا لم يبادر بالدفاع عنها طالما هو يشهد فى صفها؟.. وطالما كان موجودا فى القاعة ويحمل سلاحا «ميرى».. يعنى هو فى مهمة رسمية.. وليصحح لنا رجال البوليس هذه المعلومة.. ضابط بزيه الرسمى ويحمل سلاحه الميرى.. ألا يعتبر فى خدمة القانون طوال هذا الوقت؟.. أم أنه من المسموح به أن يتجول فى المحاكم يدلى بشهادات النفى أو الإدانة وهو فى هذا الوضع؟..

ماذا كان يفعل وهو داخل القاعة طوال وقت ارتكاب الجريمة ولديه سلاح فى خاصرته يفوق سلاح المجرم قوة؟.. أما إذا كان موجودا ليدلى بشهادته فى صف الجانى؟.. فهل هذا يعطيه المبرر لأن يقف بلا حراك شاهدا على تلك الجريمة البشعة طوال هذا الوقت؟..

وحسبما ذكرته جريدتنا «الشروق» نقلا عن دير شبيجل أون لاين.. فإن الضابط الذى أطلق الرصاص كان موجودا خارج القاعة.. واندفع داخلا فى الغالب على أصوات الاستغاثة ليطلب من ذلك اللوح الموجود فى الداخل أن يعطيه السلاح، لأن هناك بلطجيا فى القاعة!!!!!!!!!.. ثم يبادر بإنقاذ الجمهرة الموجودة والمجتمع الألمانى والعالم بأسره من ذلك البلطجى.. فيكاد يودى بحياة الزوج المصرى البطل..

مشهد قمة فى العبث.. يعنى حتى ماحدش شاورله على المجرم.. لم يتوقف لحظة ليرى من يطعن من.. وواضح أنه لم يلحظ أن أحدا من الموجودين قد مد يد المساعدة لتلك الأسرة التى تلوثت ملابسها بالدماء ولا تلك الملقاة على الأرض تنزف آخر قطرات حياتها..

أما إذا كان قد صوب مسدسه المستعار من اللوح الأول على الشخص الذى يحمل السمات الشرقية وافترض فى سره أنه هو الجانى.. ألم يلحظ أن تلك الشرقية التى بجواره والتى ترتدى الحجاب «الإرهابى» ملقاة على الأرض وسط بركة من الدماء؟.. وأن الأجنبى الأبيض صاحب الملامح الروسية ليس به خربوش واحد رغم أنه يحمل سكينا؟..

رأيت الجريمة بعين كاميرا ترصد التفاصيل.. وذلك عندما تابعت انفعالاتنا جميعا وثورتنا وإحساسنا بالظلم.. وردود الفعل الغاضبة التى جعلت هيئات كثيرة قانونية وقضائية مصرية تهب لتكوين مجموعات من الرجال الذين سيسافرن إلى ألمانيا للوقوف بجانب بنتنا جميعا وليتأكدوا من تحقيق العدالة ومعاقبة الجانى بالعقاب الذى يستحقه..

ولكننى أرى الأمر من وجهة نظر أخرى.. الجانى سيعاقب حتما، لأن الجريمة ثبتت عليه على مشهد ومرأى من العالم أجمع.. ولا يحتاج الأمر لكل هذه المجموعات من الرجال ليتأكدوا من ذلك.. حتى لو حاول المجتمع الألمانى تطبيخ التهمة بادعاء أنه مجنون.. فهى حيلة قديمة لن يفلتوا بها.. واسألونا احنا.. معلمين فى هذه اللعبة..

ولكن أصابع اتهامنا يجب أن تشير إلى كل من كان بالقاعة من رجال مهمتهم الأولى تحقيق الأمن والعدل.. إلى الرجال الذين وقفوا بلا حراك.. إلى هؤلاء الذين لجأت إليهم ابنتنا فى الأصل تشتكى من تهجم ذلك الوغد عليها لنزع حجابها أمام ابنها الطفل فى الحديقة.. والذى سبق وأن تهجم عليها فى الجلسة الأولى للقضية عندما قال لها ما معناه إنها لا تستحق الحياة..

إلى الضابط اللوح الذى كان يحمل السلاح ولم يفكر فى استخدامه ليدرأ عنها وعن أسرتها الخطر.. إلى الضابط الثانى السوبر هولاكو الذى تحرك فى قوة وسرعة بديهة ليخطف المسدس فيرتكب به جريمة أبشع.. إلى القاضى الذى لم يفعل شيئا حسب تخيلى.. لم يصدر أمرا للحرس بالتحرك ولا النجدة.. أليس هو الذى يأمر الحراس بحبس وبإلقاء القبض على المتهم وحبسه إذا ما تطاول على المحكمة.. أليس هو السلطة العليا فى القاعة؟.. أو هكذا أفهم من معلوماتى الفقيرة..

المظاهرات والمسيرات والوقفات الصامتة سوف تؤكد شعورنا بالظلم تجاه نظرة الغرب لنا كشرقيين وكعرب.. ونظرته لنا كمسلمين.. وهى نظرة لا يجب أن نغفل أن بعضنا ساهم فيها..

وهذا موضوع يطول شرحه.. ولكن مربط الفرس هو المطالبة بمحاكمة كل من تقاعس عن إنقاذ ابنتنا بينما كان يملك كل السلطة والأدوات لفعل ذلك.. إلا أنه لم يفعل.. فقط لأنها محجبة.. فقط لأنها مسلمة.. وهنا تكمن جريمة التفرقة العنصرية كاملة الأركان..

إسعاد يونس  فنانة ومنتجة سينمائية مصرية
التعليقات