جمرٌ تحت الرماد في فرنسا - سمير العيطة - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 12:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جمرٌ تحت الرماد في فرنسا

نشر فى : الأحد 9 يوليه 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : الأحد 9 يوليه 2023 - 8:00 م
لفتت انتفاضة الضواحى الفرنسية الأخيرة الأنظار من حيث اتساعها الكبير وتداعياتها الاجتماعية والسياسية على البلاد. انتفاضة لم تزل منذرة رغم توقف أحداث العنف، فكتابات الجدران دلالة على أن جمرا ما زال تحت الرماد. خاصة وأنها تأتى فى سياق سلسلة من انتفاضات على مدى العقدين الماضيين هذه أكبرها وأكثرها عنفا حيال مؤسسات الدولة.
المنتفضون ليسوا من أبناء موجات الهجرة الحديثة إلى أوروبا الغربية من البلدان العربية أو أفريقيا أو آسيا. لا سيما وأن فرنسا كانت من أقل الدول الأوروبية استقبالا لهم، نسبة لعدد سكانها، وبالتحديد مقارنة مع ألمانيا. أغلبية هؤلاء المنتفضين هم من أصول مهاجرة ولكنهم فرنسيون يحملون جنسيتها منذ جيلين أو ثلاثة بعد أن جاء أجدادهم للعمل فى المصانع والمساهمة فى مسيرة البناء التى واكبت سنوات «الثلاثين المجيدة». واللافت أن كثيرا من المهاجرين الجدد إلى فرنسا يحاولون متابعة مسيرة الهجرة مجددا إلى بلدان أخرى، ولا تزال ظاهرة مدينة «كاليه» ماثلة فى الأذهان مع مئات المهاجرين الذين ينتظرون فرصة لعبور بحر المانش نحو بريطانيا.
أجداد المنتفضين اليوم انتظموا فى نقابات وأحزاب يسارية، ورغم البؤس الذى كان يعيشون فيه منعوا متظاهرى مايو 1968 الشباب من احتلال وتخريب المصانع لأنها وسيلة رزقهم. أما منتفضو اليوم فهم فى أغلبهم شباب، بل قُصّر بنسبة ملحوظة، لكن من الواضح فقدان الأمل لديهم خاصة من حيث تقبل المجتمع الفرنسى لهم مع أنهم باتوا يشكلون نسبة ملحوظة من الفرنسيين.
إن توصيفهم بأبناء الضواحى يحتوى كثيرا من الاختزال. إنهم فقط أبناء ضواح فى باريس والمدن الكبرى اليوم حيث غدا العيش فى وسطها صعبا حتى على أبناء الطبقة المتوسطة. أما فى المدن الأخرى التى لم تشهد القفزات و«الخلخلة» العقارية فهم يعيشون فى قلب المدينة وهم جزء من صلبها. وأغلب هذه المدن الصغيرة شهدت أيضا أحداث الشغب.
هكذا تكمن جذور الانتفاضة ضمن إطار المجتمع الفرنسى وبالتفاعل بين جزء من هذا المجتمع والأجزاء الأخرى والأهم من ذلك مع الدولة الفرنسية والطبقة السياسية التى تهيمن على مقدراتها منذ زمن.
• • •
بالتأكيد لدى المجتمع الفرنسى مزايا كبيرة من حيث الدفاع عن الحريات العامة والحقوق. لكنه لأسباب تاريخية لديه صعوبة أكثر من المجتمعات الأوروبية الأخرى فى تقبل تنوع الهويات الجزئية داخله ولاحتواء الهجرات الذى شهدها. مجتمع كورسيكا وحده حافظ على هوية مميزة لأنها جزيرة. وكذلك الجزر الأخرى وراء المحيطات. كما تقبل المجتمع الفرنسى حفاظ مقاطعتى الألزاس واللورين على نوع من الهوية المميزة لواقع نزاع فرنسا التاريخى عليهما مع ألمانيا. ففرنسا لائكية رسميا منذ عام 1905، تفصِل الدين عن الدولة، فى كل مكان... سوى هناك. واندمجت مجتمعات مهاجرى أوائل القرن العشرين، من إيطاليا وبولونيا وإسبانيا وغيرها، ضمن الهوية الفرنسية الجامعة وفقدوا هوياتهم الأصلية. لكن ضمن مجتمعات الهجرة الأحدث فى منتصف القرن العشرين، فقلة الذين اندمجوا لأسباب تتعلق بالدين، وخاصة الإسلام، أو بلون البشرة. واللافت أن ذوى الأصول المغاربية أصبحوا أكثر تمسكا بالهوية الإسلامية من آبائهم وأجدادهم لما يثير تشييد مسجد من إشكاليات ولما أثارته من إشكاليات عامة سياسية واجتماعية قصّة ثلاث فتيات ارتدين غطاء رأس، وليس حجابا حينها، للذهاب إلى المدرسة. قامت القيامة وقتها كما قامت حينما حاول وزير للتعليم إلغاء دعم الدولة المالى للمدارس الخاصة المسيحية.
وفى الواقع، لا تقع المسئولية على المجتمع بل على الدولة والطرق التى تعالج فيها أزمة تكبر وتتراكم مع الزمن. بداية من المناهج المدرسية وطريقة طرح هوية جامعة تتقبل التنوع. فلا معنى اليوم أن يتعلم الأطفال الفرنسيون أنهم جميعهم ينحدرون من قبائل «الغال Gaule». ولم يعد ممكنا للمناهج أن تتغاضى عن قضايا حساسة كما الجزائر، التى لم تكن مستعمرة بل ضمت كجزء من الأراضى الفرنسية، وجرى التمييز فيها بين الوافدين الفرنسيين وبين أبناء الأرض اليهود والمسلمين. وكيف مُنحت المواطنة لهؤلاء دون أولئك؟ بالتالى ما زال هناك إشكالية فى فرنسا كى تكون «السردية» المؤسسة مدرسيا للهوية الجامعة... فعلا وواقعيا سردية مواطنة للجميع.
• • •
من نافلة القول أن العصر الحالى يشهد أفول الأيديولوجيات الاجتماعية وبروز أيديولوجيات الهويات مما يتطلب عملا اجتماعيا أكبر ضمن المجتمعات الأكثر حرمانا وفقرا عبر المراكز الاجتماعية والنشاطات الثقافية وعبر مراكز التدريب على خلق فرص العمل، وحتى فيما يخص المؤسسات الدينية وكيف يتم تأهيل كوادرها. ولطالما تذرع القائمون على الدولة الفرنسية بقلة الإمكانيات المادية وقلة الكفاءات للتعامل مع هذه القضايا رغم تواتر الانفجارات الاجتماعية. وحيث انتهى الأمر بسن قوانين تجرم الأهل فى حال قام المراهقون بأعمال شغب لأنه لا يُمكن محاكمة القاصرين ومعاقبتهم باعتبارهم قاصرين.
ومع تضاؤل الفعل الاجتماعى للدولة لا يجد من تطلق عليهم تسمية أبناء الضواحى أمامهم من الدولة.. سوى الشرطة وقوى الأمن لحفظ النظام. لكن هنا أيضا تم تقليص إمكانيات الشرطة المحلية وتأهيلها، تلك التى يمكن أن تتواجد ضمن المجتمع وتحفظ انتظامه وتعرف أبناءه وخصوصياته. بحيث أضحت العلاقة بين الطرفين استعلائية من طرف يقابلها استفزازية من الطرف الآخر. شرطة توقف الشباب للسؤال عن وثائقهم بناء على لون وجههم وشباب يتفاخرون كيف يغيظونها. هذا إلى درجة أن الأمم المتحدة نوهت إلى التصرفات العنصرية للشرطة الفرنسية مما أثار استنكار السلطات فى هذه البلاد. إلا أن الانتفاضات المتواترة فى فرنسا باتت تشابه أكثر ما تشهده الولايات المتحدة من انتفاضات الأمريكيين ذوى الأصول الأفريقية.
بالطبع ليست هذه الأمور سهلة ولكن المناخات السياسية العامة تتوجه نحو التطرف «اليمينى» فى مجمل أوروبا وكذلك فى فرنسا. فبعد أن وصل مرشح حزب اليمين المتطرف إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة.. عام 2002، وأحدث ذلك رد فعل واسع بحيث هزم بعد نيله 18% من الأصوات، جاءت انتخابات 2022 مجددا بمرشحة اليمين المتطرّف كى تُهزم هذه المرة لكن 41%. فماذا عن الانتخابات القادمة؟ خاصة بعد نجاح اليمين المتطرف فى إيطاليا وغيرها ومع بداية تقبّل المجتمع الفرنسى لحزب اليمين المتطرف التاريخى؟!..
سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات