الحقيقة.. أحيانا تؤلم - جميل مطر - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 9:41 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحقيقة.. أحيانا تؤلم

نشر فى : الأربعاء 9 سبتمبر 2015 - 7:55 ص | آخر تحديث : الأربعاء 9 سبتمبر 2015 - 7:55 ص

بفضل ثورات الاتصال والمعلومات والمواصلات أصبحنا نعرف أشياء أكثر مما كنا نعرف، ونعرف أكثر عن أشياء كنا نظن أننا نعرف كل شىء عنها. نعرف أكثر ونريد أن نعرف أكثر وأكثر. رغبتنا فى المعرفة تضعنا فى مواقف صعبة، كالموقف عند اتخاذ قرار ان نستمر فى تلبية الرغبة فى أن نعرف حتى لو كان ما سنعرفه سوف يتسبب فى الإساءة لنا أو إلى من هم حولنا.

***
كنا، فى عصور ما قبل العلم، نسعى إلى الاقتراب من المجهول باستخدام التنجيم وتوظيف العرافين وقراءة ورق اللعب. كانت مغامرة محسوبة أحيانا ومصدر تسلية فى أحيان أخرى. تعلمنا بالثقافة والتقاليد أن القدر شرير، لا يحمل لنا إلا الأخبار والأحداث السيئة، فحشدنا لمحاربته المنجمين والعرافين، ولنحلم معهم بأيام أسعد وامنيات تتحقق. ثم جاء العلم ليضعف سطوة القدر وفى الوقت نفسه يقلل من أهمية دور المنجمين وقارئى البخت فى الودع وأوراق الشاى وورق اللعب.

***
مقابل ما لا يزيد عن المائة دولار، أو ما يعادلها، يستطيع الفرد منا فى عصر العلم ان يحصل على خريطة مزودة بقائمة بالأمراض التى توارثتها عائلته. لا حاجة به الآن إلى من يقرأ له الحظ، لأنه حتى لو أتقن مهنته وأبدع فى استخدام فن الكلام فلن يستطيع أن ينقل إلى أى منا ما نقله العلم إلى الفنانة انجلينا جولى. قال لها العلم، مقابل هذا المبلغ الزهيد، انها تحمل فى جسدها مبررات اصابتها بأشد الأمراض خبثا. الأمر بات مؤكدا والحقيقة واضحة والخيارات محدودة، إما ان تسارع باستئصال الجزء من الجسم المعرض للإصابة بالمرض فينقذ نفسه وتعيش ما تبقى من العمر سعيدة، أو تستسلم فتنعزل فى انتظار «القدر» الذى سوف يحسم المسألة ولن يحسمها لصالح المريض. انجلينا تظهر فى الصور منفردة أو مع الناس سعيدة لأنها عرفت الحقيقة، تعيش حياتها وتبذل جهدا لإسعاد المرضى والتعساء والمظلومين فى هذه الدنيا. هكذا كانت الحقيقة ضرورة ومعرفتها مفيدة.

* * *

عائلة سعيدة. كافح الوالدان ليؤمنا لأبنائهما وبناتهما حياة كريمة فى إطار بيئة منزلية مستقرة وهادئة. نشأوا على سير الوفاق والسعادة الزوجية التى كثيرا ما سرد عليهم الأبوان على مائدة العشاء، أو بينما هم جميعا يتسامرون حول المدفأة فى ليالى الشتاء الحميمة. كان الحب حاضرا لا يغيب لحظة عن هذه العائلة السعيدة فى تلك الأيام الهادئة. فجأة دخل العلم إلى الدار كغيرها من الدور فى شكل إعلان عن بنك معلومات شهير افتتح فرعا فى هذه المدينة الصغيرة، وأن البنك تخصص فى لم شمل العائلات ورسم «أشجار» العائلات الممتدة فى الزمن أو فى الرقعة. تحمس الأولاد والبنات للفكرة وتعاقدوا مع البنك من دون علم الأب والأم. وبعد فترة وجيزة وصل التقرير، وليته ما وصل. جاء فى التقرير حقيقة كانت غائبة عن معظم أفراد العائلة، وهى أن لهؤلاء الأولاد والبنات أخا غير شقيق، يعيش فى مدينة كذا ويعمل فى شركة كذا، ولا يعرف هو نفسه ان له أخوة وأخوات أحياء لا يعرفونه أو يعلمون بوجوده. «الحقيقة» فى هذه الحالة تحديدا ربما كانت ضرورية من وجهة نظر الأبناء والبنات ولكنها لم تكن مفيدة. ربما كانت مفيدة لذاتها كحقيقة موضوعية، ولكنها بالتأكيد لم تكن مفيدة، ففى الليلة التى وصل فيها التقرير وقع طلاق فى هذه العائلة «السعيدة» وانفرط شملها ولم يلتئم حتى ساعة كتابة هذه السطور.

* * *
هل يفيد ان نعرف أن شواطئ البحر المتوسط، وبخاصة شواطئ جنوب أوروبا، سوف تتعرض لتسونامى على درجة التسونامى الآسيوى، وأن قرى بالمئات سوف تغرق وسكانا بمئات الألوف سوف يقضى عليها وخرابا شديدا سوف يصيب اقتصادات هذه البلدان. نعم يفيد. أمر مؤلم أن نتوقع كوارث وأزمات، ولكن من المفيد أن نعرف هذه «الحقيقة» قبل وقوعها فنستعد باستباق الكارثة. أما كان يمكن لإدارة الرئيس بوش انقاذ ممتلكات وأرواح لو أن علماء أمريكا تأكدوا من موعد وحجم إعصار كاترينا قبل وقوعه وأبلغوا رئيس البلاد؟

كذلك كان أجدى بحكومات أوروبا أن تعترف بأنها توقعت أزمة المهاجرين واللاجئين القادمين بالقوارب، توقعتها قبل وقوعها بسنوات، حين أكد بعض علماء الاجتماع والسياسة أن تدهور أوضاع العراق بسبب الغزو الأمريكى سوف يؤدى إلى تدهور أوسع فى جميع الشرق الأوسط. كتب بعضهم وقتها يحذرون من قوارب بالمئات تنزل إلى البحر المتوسط تحمل أفارقة وعربا وآسيويين إلى شواطئ أوروبا. لم تكن «الحقيقة» غائبة تماما فقد أعلنت عن قرب قدومها قوارب بالمئات خرجت من شواطئ فيتنام ومسيرات على الأقدام تتحرك فى اتجاه ليبيا ومصر عابرة الصحراء أملا فى أن تقفز منهما إلى البحر. لم تكن الحقيقة غائبة أو حتى غير متوقعة، ومع ذلك فحين فاجأت المسئولين الأوروبيين فجرت سلبيات كثيرة فى الاتحاد الأوروبى كانت غائبة. مرة ثالثة أو رابعة أو خامسة خلال قرن تتجاهل أوروبا الحقيقة وهى ماثلة أمامها فتدفع ثمن تجاهلها غالبا.

* * *

ماثلة أمامنا فى اليمن حقيقة يصر مسئولون عرب على انكار وجودها. الاصرار غريب رغم أن تحققها قد يهز استقرار وأمن إقليم بأسره. وقتها لن ينفع الندم. استعدوا لهذه الحقيقة الماثلة امامنا ولكن الغائبة عن وعى مسئولين عرب كثيرين. هنا، فى هذه الحالة، مفيد جدا أن نعرف الحقيقة. لا ننسى اننا سبق لنا أن تعرفنا منذ زمن غير بعيد على بوادر حقيقة تتشكل فى فلسطين. أنكر المسئولون العرب وجودها وفى الوقت نفسه استسلموا لها، وما زالوا هم وخلفاؤهم إلى يومنا هذا ناكرين ومستسلمين.

* * *
تعالوا نسأل أنفسنا، كل على حدة وبصوت خفيض. هل يريد الواحد أو الواحدة منا حقا معرفة «حقيقة» رأى شريك حياته فى الحياة التى قضياها معا. هل يريد حقا معرفة حقيقة ما يفعله شريك حياته فى حياته الخاصة؟ نسمع، وسوف نسمع دائما، عبارات من نوع الشفافية المطلقة والإخلاص المتبادل والثقة الكاملة وغيرها من الشعارات المعلنة والمقدسة فى كل بيت وكل عائلة. كم شخص تردد فى السعى لمعرفة حقيقة رأى شريك حياته فى أدائه العائلى، أو لمعرفة رأى رئيسه فى العمل فى أدائه الوظيفى، أو لمعرفة رأى الجادين من قرائه فى مقالات يكتبها. ألم يكن سبب التردد فى كل حالة هو الخوف من أن يأتى الرأى سلبيا. الحقيقة إذا جاءت سلبية جلبت معها التعاسة والاكتئاب، ان لم تجلب شرا مستطيرا.

***
لا بأس من بعض الحذر والتردد فى السعى نحو معرفة الحقيقة كاملة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي