هل يجوز الترحّم على عيسى العوام؟ - جورج فهمي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل يجوز الترحّم على عيسى العوام؟

نشر فى : الإثنين 9 نوفمبر 2020 - 9:30 م | آخر تحديث : الإثنين 9 نوفمبر 2020 - 9:30 م

اتصل كاثوليكى أمريكى بأحد البرامج الدينية مُبديا انزعاجه ممّا يتداوله البعض من أن البابا فرانسيس قد صرّح بأن «الخلاص»، أو الدخول إلى الجنّة، فى المفهوم المسيحى، لا يقتصر على المسيحيين فقط، بل ينسحب على غيرهم أيضا. فكان ردُّ مقدّم البرنامج أن كلام البابا تمّ تحريفه، وأنه ربما كان يشير إلى أولئك الذين لم تصلهم رسالة المسيحية، لكن العقيدة المسيحية واضحة، وهى أن لا خلاص خارج الكنيسة، ولا يمكن للبابا أو لغيره تغيير هذا الأمر.
هنا انتهت المسألة. السؤال طُرِح والإجابة أُعطيَت، وانتهت القصة.
لكن الأمر يختلف فى مصر. فالجدل حول مفهوم «الخلاص» لدى المسيحيين أو الجنّة لدى المسلمين لا يقتصر على سؤال فى برنامج دينى ينتهى بانتهاء البرنامج، بل يتجاوزه ليصبح جدلا عاما تشارك فيه وسائل الإعلام، والمثقفون ورجال الدين، وتُكتَب فيه المقالات، مع أو ضدّ.
فلماذا يثير سؤال الجنّة والنار كل تلك الحساسية فى مصر، ولا يثيرها فى دول أخرى؟
●●●
على المستوى الدينى، إن هذا الأمر مُسلَّمٌ به لدى أصحاب العقائد الدينية المختلفة. فأتباع كل دين يرون أن الطريق إلى الجنّة أو الخلاص يمرّ فقط عبر القبول بتعاليم دينهم. ولا يختلف موقف المؤسسات الدينية الإسلامية فى مصر عن مثيلتها المسيحية. فطبقا لعدد كبير من رجال الدين المسلمين، لا مكان لغير المسلمين فى الجنّة، طالما عُرِض عليهم الدين الإسلامى ورفضوه. بشرط أن يكون الإسلام عُرِض عليهم بشكل صحيح، وليس بشكل منفرّ. هذه هى حال المصريين المسيحيين أيضا، إذ إن موقف الكنيسة الأرثوذكسية من قضية الخلاص واضح تماما. فقد شدّد رجل دين بارز فى كلمة له، على أن ليس بالأعمال فقط يدخل الإنسان إلى السماء أو الجنّة، بل لا بدّ من القبول بالعقيدة المسيحية، مؤكّدا المعنى نفسه الذى قدّمه رجال الدين الإسلامى، بأن مَن عُرِضَت عليه العقيدة المسيحية ورفضها، لا مكان له فى الجنّة حتى لو كانت أعماله حسنة. ولا يقف بعض رجال الدين الأرثوذكس عند هذا الحدّ، بل يذهبون حتى أبعد من ذلك، مؤكّدين أن الأمر لا يتعلق فقط بفُرَص غير المسيحيين فى «الخلاص»، بل يمتدّ أيضا إلى المسيحيين من غير الأرثوذكس.
القضية لا تتعلق إذا بالتعاليم الدينية، فموقف المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية فى مصر وخارجها يكاد يكون متطابقا. فلماذا، والحال كذلك، كل هذا الجدل الذى يصاحب هذه المسألة فى مصر؟
●●●
لا يتعلق الأمر بالتعاليم الدينية بقدر ما يتعلق بالأُسُس التى يقوم عليها التعايش المجتمعى فى مصر. فعَقدُ التعايش المجتمعى فى مصر قائمٌ منذ عقود على مبدأ شراكة عنصرَى الأمّة، المسلمين والأقباط، فى الحياة على أرض هذا الوطن، مبدأ يتم تدعيمه باستدعاء شعار ثورة 1919 عن تعانق الهلال والصليب، بينما يتراجع شعار آخر من شعارات تلك الثورة، «الدين لله والوطن للجميع»، إلى الخلفية. فالمواطَنة فى مصر أساسُها الشراكة بين جماعتين دينيّتين لا ثالث لهما، لا بل صارت فترات التوتر الدينى فى مصر تُقاس حصرا بطبيعة العلاقة بين المسلمين والأقباط. فتتم الإشارة دوما إلى قوة تلك العلاقة خلال الفترة الناصرية، مع أن تلك الفترة شهدت أيضا نهاية مكوّن دينى من مكوّنات المجتمع المصرى، وهو الطائفة اليهودية. كذلك عادة ما تتم الإشارة إلى حقبة الرئيس السادات باعتبارها بداية مرحلة التوتر الطائفى، وهو ما يتعلق فقط بعلاقة المسلمين والأقباط، أما المصريون الذين اختاروا عقائد دينية أخرى فهم لا يقعون بالضرورة ضمن هذا العقد المجتمعى.
ولذا يأتى السؤال حول مصير «عنصرَى الأمّة» بعد الموت ليثير عادة حالة من الجدل المجتمعى، فالسؤال والإجابة عليه لا يتعلقان فقط بمرحلة ما بعد الموت، بل أيضا بالحياة المشتركة بين المسلمين والأقباط على أرض هذا الوطن. إذا كان السِلم المجتمعى قائما فى الأساس على تآخى المسلمين والأقباط، فكيف يتجرأ البعض على وصف أتباع إحدى الجماعتين بالكفّار، أو القول إن مصيرهم ليس فى الجنّة. لقد قامت المواطنة المصرية، وللمفارقة، على شعار دينى، الهلال يعانق الصليب، فكيف يأتى البعض الآن ليخبرنا أن شركاء الوطن لا مكان لهم فى جنّة الله أو ملكوته. لا عجب إذا أن تعكّر تلك الإجابة صفو الأساس الاجتماعى للتعايش داخل المجتمع المصرى.
●●●
لمواجهة هذه الأزمة، يهرع البعض إلى المؤسسات الدينية مطالبا إياها بإعادة صياغة خطابها الدينى لمعالجة تلك الإشكالية، إلا أن المسألة لا علاقة لها بالنصوص الدينية، بل بالأُسُس المجتمعية التى ترسّخت عبر عقود. وبالتالى لن يكون حلّ هذه الأزمة المتكررة فى تغيير التعاليم الدينية لكى تلائم طبيعة العقد الاجتماعى بين المصريين، بل فى إعادة صياغة هذا العقد نفسه لكى يقوم فقط على مبدأ المواطَنة، بصرف النظر عن معتقدات المصريين الدينية، لا على مبدأ شراكةٍ بين جماعتين دينيّتين. فالسؤال حول مصير أتباع الديانات الأخرى بعد الموت هو بالتأكيد مشروع، يسأله المسلمون فى مصر كما يسأله الكاثوليك فى الولايات المتحدة، والإجابة عليه أيضا مشروعة، تردّدها العقائد الدينية المختلفة بشكل موحّد تقريبا. المشكلة ليست فى الإجابات الدينية نفسها، بل فيما ينتج عنها من آثار اجتماعية وسياسية.
أما السؤال الذى حمله عنوان هذا المقال، فلا حاجة للإجابة عليه لأن عيسى العوام لم يكن مسيحيا فى الأصل، بل مقاتلا مسلما. لكن إذا أراد يوسف شاهين أن يجسد فيلما تاريخيا عن صلاح الدين يحاول أن يحاكى فيه واقع مصر خلال الستينيات، فقد كان عليه أن يبدّل ديانة العوام، حتى يفرد لعنصرَى الأمّة مكانا سويا على شاشة السينما. ولولا هذا العقد المجتمعى نفسه بين المسلمين والأقباط، لما اضطّر شاهين إلى لَىّ حقائق التاريخ لتأكيد قوة العلاقة بين القائد المسلم وفارسه المسيحى.

جورج فهمي أستاذ مساعد بالجامعة الأوروبية بفلورنسا
التعليقات