اكتشفت الكثير من التفاصيل حول حياة السيدة أندريه بلوين، الناشطة السياسية والنسوية البارزة التى ولدت فى مطلع عشرينيات القرن الماضى فى إفريقيا الوسطى، وذلك بفضل الفيلم الوثائقى الطويل «موسيقى تصويرية للانقلاب» للمخرج البلجيكى يوهان جريمونبريز، الذى عُرض خلال الدورة الأخيرة لمهرجان الجونة وحاز على جائزته الفضية. وهو يدور حول حقبة هامة فى تاريخ نضال القارة السمراء ضد الاستعمار الغربى، ويركز على فترة اغتيال زعيم الكونغو باتريس لومومبا عام 1961 على يد أجهزة مخابرات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبلجيكا، بعد الإطاحة بحكومته المنتخبة وقيام موبوتو سيسى سيكو بانقلاب ضده. الفيلم أكثر من رائع وثمرة مجهود بحثى يُحتَرم استمر نحو سبع سنوات، وقد زاوج بين الأحداث السياسية وموسيقى الجاز الأفروأمريكى بشكل بارع ولافت فى تعبير عن وحدة النضال ضد التمييز العنصرى، لذا استمرت عملية المونتاج وحدها ثلاث سنوات.
جذبتنى شخصية السيدة أندريه بلوين وكانت شاهدة على الأحداث وطرفا أصيلا فيها، إذ ساندت لومومبا فى نضاله وحملته الانتخابية بعد الاستقلال مباشرة، كما شغلت منصب مسئولة البروتوكول (دائرة المراسم والاتصال) وبالتالى اشتملت مهامها على كتابة خطاباته الثورية والتوجه إلى العالم الخارجى لمساندة قضايا التحرر والاستقلال. توقفتُ عند دورها وغيرها من نساء إفريقيا فى ذلك الوقت، وهو ما لم يتناوله الفيلم، فقد احتفظت ذاكرتنا الجمعية بأسماء القادة الرجال الذين عاصرتهم ورافقتهم مثل أحمد سيكو تورى وكوامى نكروما وباتريس لومومبا، لكن ذهبت مسيرة المناضلات أدراج الرياح أو بالأحرى سقطت سهوا. فى حين تشير بعض المراجع إلى وجود ست سيدات على سبيل المثال لا الحصر، بخلاف أندريه بلوين، أسهمن بشكل فعال فى التخلص من العنصرية والاستعمار، وهن سوزان سيزير (مارتينيك)، بولين ناردال (مارتينيك)، جان فيالى (الكونغو)، أوجينى إيبويه تيل (غينيا)، أوا كيتا (مالى) وإيسلاندا روبينسون (أمريكية من أصول إفريقية).
• • •
لا تسمح المساحة بتناول مسيرتهن جميعا، لذا سأكتفى بأندريه بلوين التى تستحق أن يخصص لها فيلم وحدها، يروى حكايتها منذ أن ولدت لأم من إفريقيا الوسطى وأب فرنسى كان يشتغل بالتجارة ويكبر زوجته بسبعة وعشرين عاما. أصولها المختلطة أكسبتها جمالا من نوع خاص، لكنها لم تنقذها من الفصل العنصرى، بل على العكس كان ينظر لمن هم فى مثل ظروفها على أنهم نتيجة خطأ يجب تداركه، وبالتالى تم انتزاعها من أمها وهى فى الثالثة من عمرها ووضعها فى ميتم تديره الراهبات كما جرت العادة وقتها. هناك عانت من سوء المعاملة والاضطهاد، وحين حاولوا إجبارها على الزواج وهى فى سن الخامسة عشرة هربت بصحبة صديقتين وذهبت للعيش مع والدتها فى برازافيل، عاصمة الكونغو، حيث عملت فى حياكة الملابس.
دخلت فى علاقتين فاشلتين مع رجلين من أصول أوروبية، وفقدت ابنها وهو فى الثانية من عمره لإصابته بداء المالاريا وعدم حصوله على العقار الطبى اللازم بسبب سياسة التفرقة بين السود والبيض، وكانت هذه نقطة فاصلة فى حياتها كما أشارت فى مذكراتها التى صدرت بالإنجليزية عام 1983 تحت عنوان «إفريقيا، موطنى: سيرة مناضلة سمراء» ( My country, Africa: Autobiography of the Black Pasionaria) التى حررتها بمساعدة جان ماكيلار. تروى قصة زواجها بمهندس فرنسى كان يعمل بمناجم الماس فى الكونغو عام 1952، و«كيف كان منفتح الذهن وفلت من قبضة العقلية الكولونيالية» وأنجبت منه طفلين. أعطاها اسمه الذى اشتهرت به «بلوين»، ثم سافرا معا إلى باريس حيث كان جون بول سارتر وبيكاسو وجوزفين بيكر يسعون للحرية والتحرر، ومثقفو الحى اللاتينى يحاولون رد الاعتبار للحضارة الإفريقية.
رغم حيوية الأجواء، قررت أن تعود إلى إفريقيا وتبدأ رحلة طويلة شاركت خلالها فى تحرير ثلاث دول: غانا من الاحتلال البريطانى عام 1957، وغينيا من الاحتلال الفرنسى عام 1958، والكونغو من الاحتلال البلجيكى عام 1960، وهو ما جعلها مكروهةً من كل الدول الغربية ومحط الأنظار والانتقادات، خاصة وأنها عُرِفت كخطيبة مفوهة قادرة على إشعال حماسة الجماهير وحشد النساء، فقد أسست الحركة النسائية من أجل التضامن الإفريقى فى الثامن من أبريل 1960. وخلال حملة لومومبا الانتخابية جمعت من حولها 45 ألف سيدة وفتاة لاختياره كأول رئيس وزراء لجمهورية الكونغو الديمقراطية بعد الاستقلال.
• • •
وصفها العديد من خصومها، سواء فى الداخل أم فى الخارج، كأخطر امرأة فى إفريقيا. كونها جميلة ومتمردة وتحتفى بأنوثتها كان سببا لأن تطاردها الإشاعات، فقيل عنها «عميلة» و«محظية» و«شيوعية» و«محرضة للزوجات». شبهها أمين عام الأمم المتحدة داج همرشولد بمدام دى ستايل الفرنسية نظرا لثوريتها وفصاحتها وبراعتها فى الكتابة، وتغنى باحثون أجانب برائحة عطورها الباريسية وأناقتها، فى حين لخص لومومبا كيف استهدفها الغرب قائلا: «أعداؤنا يهاجمونها على الدوام، ويصوبون سهامهم نحوها لمجرد كونها امرأة، امرأة فى بؤرة الأحداث». فى كل مرة كان يتم طردها من دولة إقامتها بواسطة القوى الاستعمارية وأجهزة مخابراتها، وبعد مقتل لومومبا تم الحكم عليها بالسجن مدى الحياة واعتقال بعض أفراد أسرتها، لكن فى النهاية نجحوا جميعا فى الهرب إلى سويسرا ومنها إلى الجزائر بمساعدة الأصدقاء، ثم استقر بهم الحال فى فرنسا بعد أن انفصلت عن زوجها عام 1973.
أثناء وجودها فى باريس لم تكف عن مساندة نشطاء اليسار الإفريقى وتقديم النصح لبعض الساسة ووجوه المعارضة، فكانت تستقبلهم فى منزلها وتطبخ لهم الأرز و«اليخنى» حتى وافتها المنية عام 1986 بعد توقفها عن متابعة علاج سرطان الغدد الليمفاوية. رفضت أن ترى ما ذهب إليه بعض القادة الذين ساندتهم فى الوصول إلى الحكم، وما آلت إليه الأمور فى بعض الدول الإفريقية، وفضلت أن تعيش على ذكرى ما أسمته «أجمل أيام حياتها». وحين ماتت لم تكتب عنها الصحف أو بالكاد تم ملاحظة الخبر، فقد انتمت إلى عالم غير العالم الذى نعرفه.