شجرة العائلة - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 9:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شجرة العائلة

نشر فى : السبت 10 يونيو 2023 - 7:55 م | آخر تحديث : السبت 10 يونيو 2023 - 7:55 م
وُلِدت بشعر أحمر. خصل شعرها الطويل مبعثرة كألسنة اللهب، ونمش وجهها هو ماركة مسجلة للعائلة التى اشتهرت بكثرة الشامات. صارت أخيرا كلما تطل على نفسها فى المرآة ترى ملامح من أمها، خاصة نظرة العينين الواثقتين برِقة. مع تقدم العمر، أصبحت تضبط نفسها متلبسة باستعارة كلماتها وتعبيراتها وإيماءاتها، تتسلط عليها الهواجس والعادات التى كانت تزعجها من والدتها فى السابق، تفعل ما كانت تفعله بأولادها وتردد بشكل طبيعى معظم ما كانت تقوله لها وهى صغيرة. تمردت عليها فى فترة المراهقة وبداية الشباب، حلمت أن تكون مختلفة، أن تصنع حياتها وفقا لما تريد وأن تتحول إلى المرأة التى تتناسب مع هذا التصور، ثم بمرور الوقت اكتشفت أنها أخذت عنها حب الكتب التى تحملها معها أينما ذهبت، فى الصالون أو على طاولة المطبخ، وأنها هى أيضا مهووسة بنظافة الحمامات وتجرى لغسل الصحون قبل أن يفرغ الجميع من تناول الطعام. ورغم أنها لا تعرف على وجه الدقة متى طرأت عليها كل هذه التحولات وكيف ذاب وجه من أرادت أن تكون فى الزحام، لكنها تدين بالعرفان لتلك الأم الرزينة ولبسمتها الودودة.
• • •

كتب أرسطو وأفلاطون وأبقراط عن وراثة الصفات البشرية... كل يوم يكتشف العلماء العجائب والغرائب فى الخريطة الجينية للإنسان. وفى الصفوف الدراسية أخبرونا مرارا وتكرارا أن خريطتنا الوراثية (الجنوم) تقع فى قلب هويتنا وشخصيتنا، لذا فما علينا إلا قراءة التسلسل الجينى فى الكروموسومات داخل أى خلية، للاطلاع على كل المعلومات الخاصة بجينات الإنسان، فكلما عرفت المزيد عن حمضك النووى عرفت نفسك أكثر. ولفترة طويلة خلال القرن العشرين، دارت نقاشات موسعة تطورت إلى نزاع أيديولوجى حول سؤال «الطبيعة أم التنشئة؟» أو «الوراثة أم البيئة؟». ومع التقدم ظهر قصور هذا المفهوم، وتحول النقاش إلى تفاعل الطبيعة والتنشئة لإنتاج أنماط من السلوك والعواطف والإدراك. وأثبتت الدراسات أن جميع أنماطنا الظاهرية، من السمات البيولوجية مثل لون البشرة والطول إلى السمات السلوكية مثل الذكاء والمخاطرة تأتى من تفاعل بين العوامل الوراثية وغير الوراثية. ومن حين إلى حين يخرج علينا أحد المتخصصين بتصريح يفيد مثلا أن سمة الطول قابلة للتوريث أكثر من الذكاء، أو أن الإصابة بفقدان العقل قد تكون بسبب وراثى، أو أن حب السفر والرياضات الخطرة والمغامرة يقف وراءه جين معين (DRD4) أو مستقبل الدوبامين D4 الموجود لدى الطيور المهاجرة وأبناء قبائل البدو الرحل.
• • •

جلست وحدها تحت الشباك، متكئة على مسند المرآة، كأن هناك ما يمكن أن يحدث ليغير من رتابة هذا العالم القاتم. تتأمل صوتها الرنان الذى ورثته قطعا عن جدتها لأمها، فقد كان صوتها يفوح بشذا ماء الورد. ويقال أيضا إنها تشبهها فى حبها للحياة وللموسيقى والطرب. تغنى ما كانت تغنيه دون أن تدرى، وتصفف شعرها الغجرى كما كانت تحب جدتها، فتتركه على سجيته متهدلا مموجا، يضج بالحيوية. سيدة تظهر بمظهر القوة لأنها تخشى من أن يبدو ضعفها حين تفتح قلبها. ورثت هى ذلك أيضا عن بطلة طفولتها، فالجدات لا يتركن فقط بصمتهن العاطفية على الأحفاد، لكن بصمتهن الوراثية تكون، بحسب دراسة علمية حديثة، أقوى من الأجداد.

والدها ورث الصلع عن جدها، وكان كثيرا ما يـتأسف على فقدان شعره والغرة التى كانت ترفرف على جبينه طفلا، لكنه لم يكتف بذلك بل أخذ عنه أيضا جينات التوتر والقلق، ونالت هى منهما النصيب الأكبر. تضطرب حين تسير الأمور على غير المخطط له، تزعجها الأحداث الخاطفة التى قد تنقلب إلى ما لا تشتهى. تضحك حين تتذكر كيف كان أبوها يسخر من نفسه مرددا أن الإنسان يولد ومعه ثروة من الشعر تكفيه نظريا لمدة 100 أو 130 سنة، فكيف بدد هو كل هذه الثروة فى وقت وجيز للغاية؟ تسترجع نبرات صوته وهو يقول: «عموما من شابه أباه فما ظلم!» وتسترجع معها صورة شاربه العابث فوق ابتسامته الماكرة. كان يُخرج من تحت عباءته حفنات الحلوى والفستق واللوز المحمص التى كانت تنتظرها جدتها كالأطفال، فيقلد الأبناء عبارتها الشهيرة قبل أن تنطقها: «اللوز يروق الدم، والفستق يزيد من الذكاء!»..
• • •

أيام من الضحك والبراءة. ما زالت عيناها تبرق حين يعجبها شىء ما. هى تحب الفستق واللوز المحمص والشوكولاتة والزهور، تماما مثل جدتها، لكن على ما يبدو ورثت عنها أيضا ميل جسمها لتكوين الخلايا السرطانية. هذا ما شرحه لها الطبيب وهو يسترجع تاريخ عائلتها المرضى، بعدما طرح عليها العديد من الأسئلة. ظلت تحملق فى وجهه وقد بدا فى أفضل حالاته، متعطرا حليقا واثقا من نفسه. ماذا لو كان زوجها كهذا الرجل النشيط المطيع الممل؟ إلى أين ذهب فرسان طفولتها الذين مروا أمامها كأنهم الريح؟ هى ليست مضطرة أن تحذو حذو أمها وجدتها مهما كانت تشبههما، أليس كذلك؟ صارت تطرح على نفسها أسئلة لا علاقة لها بالموضوع لكى تهرب من الحديث، وقد تركت على شفتيها ابتسامة معلقة.
التعليقات