إمبراطوريـة الإعلانات بين الصحافة والفضائيات - فاروق جويدة - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 مايو 2024 12:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إمبراطوريـة الإعلانات بين الصحافة والفضائيات

نشر فى : الأحد 10 أكتوبر 2010 - 9:53 ص | آخر تحديث : الأحد 10 أكتوبر 2010 - 9:53 ص

 لا نتجاوز إذا قلنا إن سطوة الإعلانات فى سوق الإعلام أصبحت الآن هى الجواد الرابح فى كل شىء ابتداء بالمسلسلات وانتهاء بالبرامج، وإن مقياس نجاح أى مسلسل أو برنامج يرتبط بمدى قدرته على تحصيل أكبر قدر من الإعلانات.. وفى هذا السياق لا يهم أبدا ما يحتويه المسلسل من قيمة فنية أو ما يقدمه البرنامج من خدمة إعلامية.. اختلط الحابل بالنابل فى الساحة الإعلامية ولم يعد الفرق واضحا بين برنامج نجح لأنه يحافظ على ثوابت القيم الإعلامية أو نجح لأسباب أخرى آخرها القيمة وتسبقها لغة الإعلانات.

هذه القضية طرحت نفسها بقوة فى الفترة الأخيرة بعد تلك المعارك الطاحنة التى دارت بين الفضائيات وأصحاب المسلسلات من المنتجين والفنانين.. وكان السؤال هل تخضع الرسالة الإعلامية والدرامية لمتطلبات تفرضها سوق الإعلانات أم أن هذه السوق قد تهدد أشياء كثيرة فى رسالة الإعلام والدراما من حيث الهدف والقيمة الفنية؟.

إن أخطر ما جاء فى هذا الطرح أنه يضع هذه الأعمال فى امتحان صعب أمام الحرص على القيم الفنية أو مجاراة سوق الإعلانات.. كان النموذج الصارخ فى هذه القضية تلك القناة الخاصة التى حشدت عددا كبيرا من البرامج الهابطة واستطاعت أن تجمع حصيلة من الإعلانات غير مسبوقة.. فهل يعنى ذلك أن يلجأ البعض إلى الحصول على الإعلان بأى صورة وأى وسيلة حتى ولو كانت برامج ومسلسلات بلا هدف أو قيمة.

إن القنوات الجنسية من أكثر الأساليب انتشارا وأكثرها قدرة على الوصول إلى الإعلانات بلا جهد أو عمل لأنها مضمونة الرواج فهل يعنى ذلك أن الغاية تبرر الوسيلة وأن الوصول إلى الإعلان يمكن أن يكون على حساب أى شىء وأى قيمة.

إن الملاحظ فى هذه المعركة أنها كشفت عن أشياء كثيرة.

إن بعض المسلسلات التى قدمها عدد من النجوم الكبار كانت فى الأصل صفقات إعلانية لبست أثواب الدراما ولهذا ظهرت عيوبها أمام المشاهد واتضح أنها مجرد حيل إعلانية استخدمت بعض الفنانين.

إن بعض البرامج التافهة فرضت نفسها على الشاشات ليس لقيمتها أو أهمية مقدميها ولكن لأنها استطاعت أن تجمع رصيدا إعلانيا جعلها تتصدر قائمة البرامج وتطيح ببرامج أخرى أكثر عمقا وهدفا وقيمة.

كانت هناك تنازلات كثيرة أمام سطوة الإعلانات فى وضع خرائط البرامج والمسلسلات بحيث تحولت وسائل الإعلام إلى وسائل إعلانية وفقدت دورها الحقيقى الذى ينتظره المشاهد كنافذة إعلامية تتمتع بالعمق والمصداقية.

من هنا اتسعت دائرة المواجهة بين الفضائيات العربية من منها يستطيع الحصول على الجزء الأكبر من غنيمة الإعلانات؟.

فى العالم العربى الآن حسب آخر التقديرات 696 قناة فضائية تنطلق من 17 قمرا صناعيا ويشاهدها أكثر من 150 مليون مواطن ولاشك أن هذا العدد من الفضائيات وهذا الكم من ساعات الإرسال جعل المشاهد العربى يعيش فى حالة حصار دائم والدليل على ذلك أن الطفل العربى يقرأ 6 دقائق فى العام ويقضى أمام التليفزيون 9 ساعات يوميا.. هذا التأثير الطاغى للإعلام المرئى ممثلا فى التليفزيون جعل هذه الشاشة الصغيرة تتصدر أهم وسائل التأثير الثقافى والفكرى والسلوكى.. ومن هنا فإن أخطاء هذه الشاشات فى تشكيل سلوكيات الأجيال الجديدة تتجاوز كل وسائل الإعلام الأخرى ابتداء بالكتاب وانتهاء بالصحف من هنا كان تركيز المؤسسات الإعلانية للوصول إلى عقل وقلب المشاهد بكل الوسائل والأساليب.

لجأت المؤسسات الإعلانية إلى عنصر أساسى من أهم عناصر نشاط الفضائيات وهى الأعمال الدرامية.. وفى السنوات الأخيرة أصبحت الدراما من أهم المواد التى تقدمها شاشات التليفزيون وتكدست هذه المسلسلات من حيث العدد والتأثير والانتشار، ومن هنا كان الاهتمام بدمج إنتاج المسلسلات مع الحملات الإعلانية التى تغطى تكاليف الإنتاج وتحقق معدلات من الربح غير مسبوقة ليس بسبب رواج المسلسل ولكن بسبب الإعلانات التى حصل عليها.. وتسابق النجوم الكبار فى سوق الدراما وسوق الإعلانات وبدأت رحلة الأرقام الضخمة فى الأجور وهى فى الحقيقة لم تكن من أسواق الدراما ولكنها جاءت من سوق الإعلانات.

أصبح هناك عدد من النجوم القادرين على جلب كميات كبيرة من الإعلانات إما بوسائلهم الخاصة أو بما حققوه من نجومية جعلت الإعلانات تسعى إليهم.. ولاشك أن ذلك كان سببا فى ظلم كثير من النجوم الكبار الذين اعتادوا على الاهتمام بقيمة الفن قبل انتشاره وتأثيره بعيدا عن أسواق الإعلانات.

ظهرت فى الأفق حالة أخرى تشبه سوق المسلسلات وهى أسواق البرامج حيث استطاع عدد من نجوم هذه البرامج الحصول على كميات من الإعلانات لا يحصل عليها غيرهم وهنا أيضا لم يعد مستوى الجودة والمادة والقيمة هو المقياس.. إن نجاح البرنامج ووضعه فى خريطة الشاشات لا يرتبط بقيمة مقدمه أو ما يقدمه ولكن سوق الإعلانات لها الكلمة الأولى فى أجر مقدم البرنامج والمساحة التى يحصل عليها.

لاشك أن سوق الإعلانات أصبحت الآن مسئولة عن تراجع مستوى الدراما فى أحيان كثيرة وتراجع مستوى البرامج.. إلا أن البعض استطاع أن ينجو من فخ الإعلانات من الفنانين الكبار ومقدمى البرامج الذين استطاعوا أن يحتفظوا بقدر كبير من المصداقية والثقة مع المشاهد وقد تجسد ذلك فى عدد قليل من المسلسلات وعدد أقل من البرامج.

لم تعد سوق الإعلانات تهدد فقط شاشات الفضائيات سواء كانت محلية أو دولية.. لقد انتقلت الظاهرة بصورة أخطر إلى الإعلام المكتوب وليس المرئى فقط.. لاشك أن الإعلانات كانت وما زالت تمثل أحد الأعمدة الرئيسية فى بلاط صاحبة الجلالة.. ولكن كانت تحكمها اعتبارات كثيرة أهمها ألا تتحول إلى وسيلة ضغط على الرسالة الإعلامية للصحيفة.. وألا تصبح سيفا مصلتـا على توجهاتها وآرائها فى كثير من القضايا، وكان هناك خوف دائم من الخلط بين رسالة الصحيفة كوسيلة إعلامية تسعى للحقيقة والرسالة الإعلانية لترويج سلعة أو تحقيق أرباح.

كان الصراع داخل الصحف الكبرى بين دور الإعلان ودور الإعلام وفى أحيان كثيرة ضعفت بعض الصحف أمام إغراءات الإعلان بل اختلط الإعلام بالإعلان فى حالات كثيرة وفقدت الصحف مصداقيتها.. وقد اتسعت هذه الظاهرة أمام ظهور طبقة رجال الأعمال التى سيطرت على الأسواق وأصبحت تمثل ثقلا سياسيا وماليا ترك آثاره على الصحافة بصورة عامة.

وبجانب هذا فقد اشتدت حدة المنافسة بين الصحف التى التفت حول غنيمة الإعلانات كل صحيفة تحاول أن تحصل على الجزء الأكبر منها، ومن أخطر الأمراض التى أصابت الوسط الصحفى هو التداخل الشديد بين العمل الصحفى والأنشطة الإعلانية.. لقد اتجه عدد كبير من الصحفيين إلى ممارسة العمل الإعلانى والإعلامى فى وقت واحد رغم الاختلاف الشديد فى طبيعة الرسالتين.

كلنا يعلم أن العمل الصحفى واضح وصريح فى البحث عن الحقيقة وتوصيلها إلى القارئ ولكن العمل الإعلانى يسعى لتجميل القبح وتشويه الحقيقة فى بعض الأحيان من أجل تحقيق الرواج لسلعة أو إنتاج أو خدمة.. وقد أفسد الخلط بين الاثنين الكثير من ثوابت العمل الصحفى فوجدنا الصحفى لا يفرق بين أن يكون صاحب رأى أو صاحب مصلحة فى صفقة إعلانية.. ساعد على ذلك أن عائد الإعلانات أكبر بكثير من عائد العمل الصحفى.. ومع انهيار الكثير من قيم وثوابت صاحبة الجلالة وجدنا أجيالا كاملة لا ترفض الجمع بين الصحافة والإعلان.

وكانت نتيجة ذلك أن الإعلان أفسد القيم الصحفية كما أفسد قيم الفن فى المسلسلات وأطاح بقيم الإعلام فى البرامج.. ثلاث جبهات سقطت مرة واحدة أمام جبروت الإعلان.. الدراما التليفزيونية التى تحولت إلى أحد توابع النشاط الإعلانى.. والصحافة صاحبة الرسالة الإعلامية المجردة التى استطاع الإعلان أن يعصف بالكثير من رسالتها وثوابتها.. والبرامج الإعلامية التى ارتدت ثوب الإعلام وهى فى الحقيقة تعتمد اعتمادا كليا على النشاط الإعلانى.

وقد ترتبت على ذلك آثار خطيرة.. أن الزواج الذى تم فى يوم من الأيام بين السلطة ورأس المال وكان زواجـا باطلا دخل فى علاقة أخرى غير شرعية مع الإعلام ووجدنا زواجا آخر بين رأس المال والإعلام وكان الإعلان هو أول شهود هذا الزواج الباطل.

إن السلطة بما فيها الوزراء لم تتورع عن الضغط على الصحف بسيف الإعلانات بما فى ذلك إغراء الصحفيين ودفع رواتب كبيرة لهم تحت دعاوى العمل كخبراء إعلاميين أو مستشارين.. وكانت الصفقات الإعلانية أكبر ثمار هذه العلاقة المشبوهة.

من أكثر الأساليب التى استخدمها المسئولون لشراء الصحافة واستخدامها لتضليل الرأى العام فى إنجازات غير حقيقية أو تجميل صور المسئولين هذا التداخل المرفوض بين رسالة الإعلام والفن والإعلان ترتبت عليه نتائج كثيرة، ربما كان أهمها وأخطرها هو حالة الشك التى أصابت الناس أمام حقائق مغلوطة ومشاهد كاذبة وشواهد افتقدت المصداقية.

وليس معنى ذلك أن نعلن أو نطالب بانفصال مملكة الإعلانات عن بلاط صاحبة الجلالة أو شاشات الفضائيات أو البرامج الناجحة لكن المطلوب فقط أن نضع كل شىء فى مكانه دون أن يجور على الآخر، أن رسالة الإعلان واضحة وصريحة ولا يستطيع أحد إنكارها أو تجاهلها فى هذا العصر لأن الإعلان يقف وراء نجاح مؤسسات ضخمة وترويج سلع كثيرة وتقديم خدمات متنوعة.. والإعلان يقف وراء مظاهر التقدم فى مجالات كثيرة تبدأ بصحة الإنسان وتنتهى بالخدمات التى حملتها ثقافة العصر وأساليبه.. إن الإعلان أصبح الآن نشاطا اقتصاديا وإنسانيا وحضاريا مبهرا فى تقنياته وبرامجه ومؤسساته.

آخر التقديرات الدولية لحجم الإعلانات فى العالم تقول إنها وصلت إلى 700 مليار دولار فى كل وسائل الإعلام العالمية.. والغريب ان جهازا حديثـا مثل الإنترنت بوسائله المختلفة قد وصلت الإعلانات فيه إلى مليارات الدولارات فى السنوات الأخيرة.

إن الأزمة الحقيقية هى الخلط بين الإعلام والإعلان لأن ذلك يهدد مصداقية الإعلام ويمنح الإعلان ما لا يستحق، والحل أن تبقى تلك المسافة التى تحفظ لكل أسلوب أهدافه ووسائله.

إن الصراع الذى يجرى الآن فى العالم العربى بين المؤسسات الإعلانية قد تجاوز الصراعات بين شركات الإنتاج والخدمات ولكن الشىء المؤسف أن الصراع بين شركات الإعلان الخاصة يستخدم فى أحيان كثيرة أساليب تتنافى مع القيم والأخلاق.

إن الإعلانات الراقصة التى تستخدم جسد المرأة وسيلة لترويج سلعة أو خدمة تتنافى مع قدسية جسد المرأة خاصة فى مجتمعاتنا العربية.. إن امتهان جسد المرإة فى الإعلانات يمثل خطيئة كبرى مهما كانت أهمية وقيمة العائد المادى الذى تحققه.

فى أحيان كثيرة تهبط لغة الإعلانات إلى مستويات تتجاوز بكثير ما يحدث فى الأغانى الهابطة.. ولاشك أن استخدام هذه اللغة يمكن أن ينعكس على أجيال جديدة تتعلم من لغة الإعلانات.

كثيرا ما استخدمت الإعلانات جزءا من تراثنا الغنائى والفنى الذى نشأت عليه أجيال وأجيال وكان النموذج الصارخ إحدى الأغنيات الوطنية التى تحولت لإعلان نوع من الجبن.

وقبل هذا كله فإن اقتحام الإعلانات للبرامج والمسلسلات تفقد المشاهد متعة التواصل مع الأحداث والأشخاص والأفكار.. فى كثير من الأحيان يقطع الإعلان أحداث المسلسل بحيث يصبح من الصعب استكمال ما يجرى على الشاشة.. والأخطر من ذلك أن تقطع حديث ضيف مهم أو حوار مسئول كبير أو تشويه قضية من القضايا.. هذه الأخطاء أصبحت شيئـا عاديا ودائما فى سوق الإعلانات حيث لا أهمية لحديث ولا قيمة لضيف ولا حساب للمشاهد الذى يجلس أمام التليفزيون.

لا يستطيع أحد الآن أن يسقط مملكة الإعلانات عن عرشها بل إنها قادرة على إسقاط ممالك أخرى كثيرة حتى ولو كانت صاحبة الجلالة.. لقد أفلست صحف كثيرة وأغلقت أبوابها لأنها لم تنجح أمام صفقات الإعلانات وصراعات المعلنين.. وأغلقت فضائيات كثيرة أبوابها لأنها عجزت عن توفير تمويل مناسب من الإعلانات وهذا يعنى أن الإعلان ضرورة.. إنه ضرورة فى بلاط صاحبة الجلالة.. وهو يمثل أهمية خاصة للفضائيات ولكن يجب أن يبقى دور الإعلان فى حدود مرسومة بحيث لا يتجاوز هذه الحدود.. إن الأخطر من ذلك هو استخدام الإعلانات الآن فى الأنشطة السياسية وهذا ليس جديدا ولكن الجديد أن الإعلانات السياسية التى تمولها الدول والحكومات والأحزاب تشوه الحقائق وتلون الأشياء وتسعى إلى تجميل صور قبيحة وتستبيح كل جوانب الحقيقة تحت شعار أنه لا سلطان على الإعلان.

ولهذا فإن تحديد العلاقة والمسئولية بين الإعلام والإعلان ووضع مسافة واضحة بينهما أمر فى غاية الأهمية.. ومع هذا يجب أن يقتصر دور الإعلان على المساهمة فى تمويل الأعمال الفنية ومنها الدراما بشرط ألا يكون من حق الإعلان صياغة فكر أو أسلوب أو فرض وجهة نظر معينة.
أما البرامج التليفزيونية فهى فى النهاية نشاط إعلامى ويجب أن تبقى مساحة الإعلان شريطـا صغيرا يحيط بالصورة حتى تبقى للبرامج مصداقيتها.

لاشك أنها معركة كبيرة وأخطر ما فيها أنها صراع بين الفكر والمال.. ونحن نعيش فى عصر أصبح المال فيه سلطانـا على كل شىء فهل تتوج مملكة الإعلانات على ما بقى من الممالك الأخرى وفى مقدمتها الفضائيات وصاحبة الجلالة.. أم يبقى لكل وسيلة سلطانها وبريقها فى كل الأحوال؟.

فاروق جويدة شاعر وصحفي مصري
التعليقات