توفيق الحكيم وعودة الوعى ! (2) - رجائي عطية - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توفيق الحكيم وعودة الوعى ! (2)

نشر فى : الأربعاء 11 سبتمبر 2019 - 8:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 11 سبتمبر 2019 - 8:05 م

لم يكن كتاب توفيق الحكيم موجهًا ضد شخص الرئيس جمال عبدالناصر، وإنما انحصرت دعوته فى كتاب «عودة الروح» ـــ فى فتح ملف فترة حكم بأكملها ومراجعتها، ليس ضد أحد أو لمحاكمة أحد، وإنما لنفتح عيوننا ونفهم ماضينا كيف كان، لنتعرف طريقنا لصناعة حاضرنا ومستقبلنا.
بل إن توفيق الحكيم لم يخف محبته الشخصية للرئيس جمال عبدالناصر، وإن لم يلتق به سوى دقائق عابرة فى مناسبة عامة، ولكنه حمل من البداية حماسه المطلق للحركة المباركة فى يوليو 1952، فقد كانت كثير من كتاباته قبل 1952 ـــ توشى بأن مصر موبوءة تحت الحكم الفاروقى بداء الحزبية والنفعية والظلم الاجتماعى، وكان وغيره يتمنون تغييرًا، وجاء فى كتابه «شجرة الحكم» عبارات كأنها تنبئ بضرورة قيام «حركة مباركة وثورة مباركة» ــ هكذا بالنص، وذلك يثبت ولا شك ارتباطه بجوهر الثورة واعتقاده أنها تحقيق لأمله ورأيه.
ويذكر توفيق الحكيم أن الوزارة الأولى ضمت بعض المدنيين، ومنهم وزارة المعارف التى تتبعها دار الكتب التى كان يترأسها، واختير لهذه الوزارة وزيرٌ من كبار رجال التعليم فى العهد السابق، وكان من أصدقائه، ولكنه فوجئ اثر احتفال أقيم له فى ألمانيا بمناسبة تمثيل مسرحية ترجمت له ـــ على مسرح «الموزاريتيوم» ــ نسبة إلى موزار ــ فى سالزبورج، بأن هذا الوزير الصديق تقدم من وراء ظهره بمذكرة يطلب فيها فصله من وظيفته طبقًا لقرار التطهير، بدعوى أنه موظف غير منتج، بيد أنه انبرى له ـــ أحد قادة الثورة وأقدرهم وأقواهم شخصية، ولمع فيما بعد ــ هو جمال عبدالناصر، صائحًا فيه ــ فيما عرف توفيق الحكيم لاحقًا: «أتريد أن نطرد كاتبًا عائدًا إلينا بتحية من بلد أوروبى؟ أتريد أن يقولوا عنا إننا جهلاء؟!»، وانتهى الأمر بخروج ذلك الوزير من الوزارة، بل وصار عبدالناصر يذكر هذه الواقعة للصحفيين والمراسلين الأجانب: «طردت وزيرًا من أجل مفكر!».
ويروى الأستاذ توفيق الحكيم أنه رغم ذلك لم يقابل عبدالناصر ليشكره على الأقل، بل إن صحفيًّا لامعًا من أصدقاء عبدالناصر زاره يومًا فى مكتبه بدار الكتب، وأخبره أن رئيس الحكومة (جمال عبدالناصر) يدعوه إلى تناول الشاى فى بيته، دعوة خاصة لن يحضرها أحد غيرهم إلاَّ أنه اعتذر بأنه موظف فى درجة مدير عام، اتصالاته مع وكيل الوزارة، وقصارها مع الوزير المختص.
وسواء قبلت أم لم تقبل بأسباب توفيق الحكيم التى عزاها إلى أنه يحرص على عدم الاقتراب من رجال الحكم وهم فيه، فإنك على الأقل لن تأخذ عليه عدم السعى إلى هذا الاقتراب مثلما يفعل الكثيرون.
وقيل له إن عبدالناصر ظل يدهش لابتعاده عنه ويقول «ألسنا نفعل ما فكر فيه وشعر به وكتب عنه.. إن الثورة ثورته».
ويقر الأستاذ توفيق الحكيم بأن هذا هو المعقول والمنطقى، إلاَّ أن ما أبعده مبدأ معروف كتب عنه مرارًا: إن الحاكم لا يريد من المفكر تفكيره الحر، بل تفكيره الموالى، وأنه يخشى أن يفقد رسالته عن وعى إذا ما اقترب من الحاكم.
ويذكر الأستاذ توفيق الحكيم من مآثر عبدالناصر، إنه انفعل من أجله حين توالى هجوم بعض أدباء الشباب عليه تحت عنوان «تحطيم الأصنام»، وإذا به يصدر قرارًا بمنحه أكبر وسام فى الدولة، ولم يأبه بمراجعة كبير تشريفاته بأن هذا الوسام لا يُمْنح إلاَّ لرؤساء الدول وأولياء العهد، بينما توفيق الحكيم موظف فى درجة وكيل وزارة لا يحق له حمل مثل هذا الوسام.
كيف إذن لا يحب عبدالناصر؟ وكيف لا يحب ــ كما أبدى ــ رجلا يحبه ويقف إلى جانبه فى كل موقف. بل إنه حين أعجبته المناقشات التى سادتها روح الحرية، والتى تابعها تليفزيونيا من فراش المرض، فى المؤتمر القومى للجنة التحضيرية المعقود برئاسة أنور السادات وحضور جمال عبدالناصر ــ رئيس الجمهورية ــ وسط الأعضاء، ورغم حدة واحتدام المناقشات حول مفهوم الديمقراطية، ظهر عبدالناصر واسع الصدر طويل الصبر، يبدى رأيه ويشرحه، ويتلقى المعارضة القوية بحجج أمام حجج بلا ضجر أو تبرم، مما استبشر به توفيق الحكيم وقوى أمله فى اتجاه الحكم الاتجاه الصحيح، فأرسل برقية للرئيس أبدى فيها أنه تابع من على فراش المرض صورة جديدة لمصر تتشكل أمامه، فرد الرئيس عليه ببرقية يشكره فيها ويتمنى له الصحة.
لا مراء فى أن جمال عبدالناصر الذى صار الرجل الأول فى البلاد، اكتسب حب الناس وثقتهم، وأخذ ذلك يتزايد كل يوم، وبدأت البلاد تعتاد على حكم فرد وثقوا به وأحبوه، والجماهير عندما تحب لا تناقش، ومن ثم خفتت شيئًا فشيئًا أصوات المناقشة، حتى ترسخ ذلك بالاعتياد، لدى الحاكم والمحكوم، وأسدل الستار رويدًا رويدًا، بين الشعب وتصرفات الحاكم المطلق، وقادت الثقة المفرطة إلى شلل التفكير، وصيرورة الانفعال ورد الفعل هو السمة المميزة وليس التفكير الهادئ الرصين الرزين المبنى على بعد النظر.
ودعنا مؤقتًا من التحولات التى تسارعت وتناولها الأستاذ توفيق الحكيم، راصدًا ما أدت إليه من تحول الحكم إلى حكم فردى مطلق، فإن المهم هنا يتلخص فى أنه لم يكن لدى الأستاذ توفيق الحكيم على المستوى الشخصى إلاَّ كل الود والتقدير للرئيس جمال عبدالناصر، بل ويحمد له مواقف أنصفته، ومن المعروف أنه الذى أجاز نشر رواية «بنك القلق» بعد أن حالت الأجهزة دون إتمام نشرها بالأهرام، ولم يذكره عبدالناصر إلاَّ بالخير.
هذا ومن المعروف أن الأستاذ توفيق الحكيم بدأ مؤيدًا للثورة ولم يحجب هذا التأييد، وازداد مجدًا وانتشارًا فى العشرين سنة التى سبقت كتابته «عودة الوعى» ــ وربطته وإن على البعد مشاعر طيبة ومتبادلة بينه وبين الرئيس جمال عبدالناصر، ولم يخسر شيئًا شخصيًّا إبان حكمة، بل إن أول معارضة له مع من وقعوا معه العريضة الشهيرة كانت فى عهد الرئيس السادات، واعتراضًا على حالة اللا سلم واللا حرب التى طالت، والاعتذار عن عدم الحسم بظهور ما أسماه الرئيس السادات «ضباب» فى الموقف، وتحمل ومن وقعوا معه تلك العريضة إبعادات وإقصاءات وحجب عن الكتابة، واحتملوا ذلك إلى أن انبلج الفجر بعد طول ظلام بنصر رمضان / أكتوبر 1973 ــ وخط كتابات الحكيم قبل وبعد 1952 ــ يورى فضلا عن الأصالة والموهبة المتميزة والعطاء الرفيع العريض، بأنه منحاز لمصر التى كتب عنها ولها «عودة الروح»، ومنحاز لقيام الحرية والعدالة والإنسانية، وتجلى ذلك فى كثير من أعماله ما بين شجرة الحكم، والسلطان الحائر، وسلطان الظلام، وطعام لكل فم، وبنك القلق، وغيرها، ولم يرتبط كغيره بحزب من الأحزاب قبل 1952، ولم تكن له مصالح خسرها فى 1952 وما تلاها، يمكن أن يبكى عليها أو يضغن بسببها، كما وأنه لا يمكن أن يُعزى الكتاب إلى (عرقلة) خطط ومسيرة الرئيس جمال عبدالناصر، فقد كان ــ رحمه الله ــ قد لاقى ربه فى 28 سبتمبر 1970 قبل أربع سنوات من صدور الطبعة الأولى لعودة الوعى سنة 1974.
لا خصومة شخصية إذن، ولا عداء لشخص الرئيس جمال عبدالناصر، وإنما المراجعة لفترة حكم بأكملها بدأت منذ يوليو 1952، شابتها أخطاء جسيمة مست مصير الوطن وأرضه وشعبه، فهل هذه المراجعة مفتعلة متجاوزة أو متجنبة، أم أنها واجب بصير للمعرفة وتصويب خطأنا؟
فلماذا إذن لا تسمع دعوته فتح الملف والنظر والتحقيق فيه؟!

التعليقات