الزحف على سطحٍ مُعْتِمٍ.. من الدم والرماد والألم.. «ثلاث تغريدات من عمق أكتوبر» - نبيل مرقس - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الزحف على سطحٍ مُعْتِمٍ.. من الدم والرماد والألم.. «ثلاث تغريدات من عمق أكتوبر»

نشر فى : الثلاثاء 12 أكتوبر 2021 - 9:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 أكتوبر 2021 - 9:35 م
«فى الصباح الباكر من يوم 8 من أكتوبر تحركت إلى الجبهة، لمناقشة الموقف على الطبيعة مع القادة الميدانيين... قابلت العميد حسن أبو سعدة – قائد الفرقة الثانية مشاة – فى مركز القيادة المتقدم للفرقة. كان يستعد لملاقاة الهجوم المضاد المنتظر من العدو. كان يتمتع بروح معنوية عالية، وكان واثقا من أنه سوف ينجح فى صد العدو...
لقد كان أكثر ما أزعجنى فى هذه الزيارة هو موقف الكبارى. لقد بلغت خسائرنا ما يعادل فى مجموعه ثلاثة كبارى ثقيلة، ولقد كان ذلك يمثل نحو 25% من مجموع الكبارى التى بدأنا بها الحرب. قد يبدو هذا الرقم مقبولا بالنسبة لعملية عبورٍ بهذا الحجم. لكننى كنت أفكر فيما قد يحدث لو أن العدو ركز مجهوده الجوى ومدفعيته بعيدة المدى على الكبارى. سوف نُسْقِطْ له العديد من طائراته ــ ما فى ذلك شك ــ لكن فى الوقت ذاته سوف يتمكن من تدمير عددٍ إضافى من الكبارى، ويخلق لنا موقفا صعبا...».
الفريق سعد الدين الشاذلى، مذكرات حرب أكتوبر، دار بحوث الشرق الأوسط الأمريكية، سان فرانسيسكو، 2003

•••

مع آخر ضوء من يوم الإثنين 8 أكتوبر 1973، وقفت وبجوارى الرقيب أول عبدالسلام عبدالظاهر (واحدٌ من ضباط الصف النابهين الذين زاملتهم واقترنت بهم إنسانيا أثناء خدمتى كضابط احتياط بالكتيبة 41 ك) على حافة الكوبرى من الناحية الشرقية من قناة السويس نترقب فى قلقٍ انحناءة اللحظة. بدا الرائد طلعت حرب إمبابى رئيس العمليات وهو يقف بالقرب منّا فخورا بالإنجاز، فقد استطعنا ــ بتوفيق من السماء ــ إصلاح الكوبرى المعطوب وإعادته إلى التشغيل بكفاءة ملحوظة خلال ساعاتٍ معدودة بعد إصابته المباشرة بضربات الطيران الإسرائيلى الغاشم. ونحن نستعيد ذلك الشعور الدافق بالقدرة على الفعل والإنجاز، بوغتنا بسيلٍ من الطائرات الإسرائيلية المغيرة... تندفع نحو الكوبرى كما لو كانت تستهدفنا... تحركنا بسرعة للاختباء داخل «الحفر البرميلية» (كلٌ منها حفرة غير عميقة تحت سطح الأرض تتسع لفردٍ واحد يختبئ فيها لتحميه من شظايا القنابل وموجات الانفجار) خلف الساتر الترابى الذى احتمى به الإسرائيليون طويلا قبل ساعة العبور العظيم.
تلاحقت الضربات الإسرائيلية المسددة بإحكام تستهدف جسم الكوبرى العائم ومن عليه من أفرادٍ ومركبات. بدأ الكوبرى يتهاوى تحت وقع الضربات المركزة والمتلاحقة.. وتصاعدت من حولنا انفجاراتٌ متتالية للقنابل العنقودية المضادة للأفراد (ما نسميه باللغة العسكرية الدارجة «قنابل البلي») التى تنفجر عادة على ارتفاعٍ قريب من سطح الأرض.. وتغطى بشظاياها المكونة من أجسامٍ معدنية حادة وكراتٍ من البلى المعدنى دائرة واسعة تتمدد على التوالى بعيدا عن مركز الانفجار فتصيب عددا غير محدود من الأفراد.
تزاحمت حولنا أَنَّات الجرحى.. وصرخات المصابين.. وحشرجات المفزوعين والمكلومين.. وزفرات المحتضرين.. وفى وسط سحابة الموت المكللة بالسواد الكثيف التى تمددت لتفترش بالتدريج جميع أرجاء المكان.. لم يعد يظهر منَّا سوى كُتَلٍ متناثرة من اللحم الممزق.. والأشلاء غير المكتملة، وعددٍ من الكائنات المذعورة.. تزحف فى بطءٍ.. على سطحٍ مُعْتِمٍ من الدم.. والرماد.. والألم... كنَّا جميعا.. بغير اتفاق.. نبحث فى هلعٍ ورجاء.. عن أى شىءٍ حى.. يتحرك.. لنلتصق به.. نحتمى فى كنفه.. من هالة الموت السوداء التى تحاصرنا من كل اتجاه.. لنستمد من رائحة الإنسان الحى... جسرا للحياة.
التصقت بالرائد طلعت رئيس العمليات.. كان صدره العارى المصاب مُغطى بالدماء.. بينما عيناه الدامعتان معلقتين بالكوبرى «الغاطس» فى مياه القناة.... كان يشعر بالألم والمهانة بعد كل ذلك الجهد المخلص الذى بذله وبذلناه.. مع أبطال الكتيبة من جنودٍ وضباط.. لاستعادة شرف مصر وكرامتها من بين أنياب عدوٍ غادر... تمدد الموت والسواد من حولنا... ولكن إرادة الحياة داخلنا... كانت تنتفض تبحث مستميتة عن ثغرةٍ للنجاة...
اقترب اللنش القادم من الضفة الغربية.. تحركنا نحوه فى بطءٍ دون تدافعٍ.. نمسك بأيدى من جاءوا لإنقاذنا.. كنت أشعر بالاختناق.. وألمٍ شديدٍ يعتصر صدرى.. ربما من تأثير الموجة الانفجارية التى عبرت بنا.. بينما صلوات أمى الملتاعة تلاحقنى.. تحيط بأنفاسى.. لم تكن تتوقع منى عادة شيئا بالمقابل.. كانت تكفيها إيماءةٌ صامتة.. تظهر لها بعض الامتنان.
وقفت أحاول إظهار بعض التماسك.. أمام زملائى على الشاطئ.. أخذونى إلى نقطة إسعافٍ قريبة.. دخلت وسط حشدٍ من الجرحى والمصابين من ضحايا القصف والانفجارات.. كنت أبدو فى حالٍ أفضل نسبيا ممن حولى.. لم أكن أعانى سوى ضيق فى التنفس.. وأعراض «ما بعد الصدمة».. فحصنى أحدهم فى عجلة.. أمر لى بالترحيل إلى مستشفى القصاصين القريب من الإسماعيلية.
خرجت بعيدا عن خط المواجهة الأمامى.. وزملائى الأبطال على شاطئ القناة.. يعملون فى همة وجدية وتصميم.. يفككون ما تبقى من الكوبرى المحطم.. ليتحول إلى عددٍ من «المعديات».. تعمل فى خدمة قواتنا على البر الآخر.. ورغم الموت والعتمة.. كانت إرادة الحياة التى حفظت مصر عبر التاريخ تنساب بقوة عبر عقول وسواعد وأفئدة أبنائها البواسل من المصريين.. تملك على نفوسهم.. وتسطع على وجوههم.. ابتسامة زهوٍ وانتصار.
نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات