تبديد موجع - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 7:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تبديد موجع

نشر فى : الخميس 13 يناير 2011 - 9:29 ص | آخر تحديث : الخميس 13 يناير 2011 - 9:29 ص

 فى نصف دقيقة منذ شهرين فقدت مكتبى كله! ومكتبى حقيبة صغيرة بها كمبيوتر صغير عليه أرشيف عملى معظمه، إضافة لفلاشات ذاكرة خارجية لأعمال سابقة وملفات لاحقة وكتابين مهمين ونظارة قراءة وقلم ومفكرة ملاحظات صغيرة.

كل ذلك نسيته فى تاكسى أبيض ونزلت ولم أنتبه إلا بعد نصف دقيقة فيما كان التاكسى قد ابتعد بحيث استحال أن ألحق به أو التقط نمرته، وكان رد فعلى المباشر على وقوع هذه الكارثة الشخصية عجيبا حتى لنفسى، فقد بدوت هادئا تماما برغم الاحتمال الأكبر لعدم استطاعتى استرجاع ما كنت أنجزته أو هيأت له أسباب الإنجاز لأكثر من سنة. ولم أستطع تفسير لامبالاتى الغريبة هذه إلا بأننى صرت ابنا حقيقيا لهذا الواقع الذى نعيش فيه مُهدَّدين دائما وناجين بالصدفة، ومن ثم نستهين بأى فقد ما دمنا ودام أحباؤنا على قيد الحياة!

بعد عودتى إلى البيت راجعت محتويات ذاكرة خارجية كنت ألقى فيها كل فترة بنُسخ من إرهاصات عملى، وبدأت أحس بحجم الفقد وضخامة الجهد المطلوب لاستعادة ما ضاع منِّى، واستشَرتُ كثيرين فأجمعوا على عدم جدوى اللجوء إلى الشرطة إلا بتوصية من الوزن الثقيل. ولأننى لا أمتلك مثل هذه التوصية ولا أريد امتلاكها، شرعت فى طَرق أبواب ذاتية فى محاولة استرجاع ما فقدته، كأن أقف يوميا فى المكان الذى ركبت التاكسى منه وفى الموعد المناظر لوقت ركوبى إيَّاه لعل السائق يمر باحثا عنِّى، كما أبلغت استعلامات المكان الذى نزلت من التاكسى أمامه! وفى غمرة هذا البحث وما صاحبه من كمد استمر لأسبوعين تقريبا، مكثت لا أركب من سيارات الأجرة إلا التاكسيات البيضاء، ناشرا بين سائقيها قصتى واعدا بالمكافأة.. لعل وعسى. ولم أجد لعل ولم ألتق بعسى، لكننى اكتشفت شيئا آخر.

اكتشفت نوعية لا تمثل كل سائقى التاكسى، لكنها تؤشر على نمو ظاهرة غريبة فى مجتمعنا، فالسائق يقاولنى قبل أن أركب فأقول له إن العداد هو الذى سيحدد ما أدفعه، فيزعم أن العداد عطلان أو أن العداد يظلمه لأنه واقف فى المكان منذ ساعات ينتظر دوره! أتفق معه برغم عدم قناعتى بحججه لأننى أكون متعبا وأعانى من صداع يلازمنى كلما أمضيت وقتا فى شوارع مدينة تمادى تلوُّثُ الهواء فيها وتوحش الضجيج، وما إن أركب حتى يفتح السائق ميكروفونات الراديو أو التسجيل على آخرها لقارئ من هؤلاء الذين يرسلون القرآن بأصوات متصحرة وبطريقة «زنَّانة» أحادية النبرة لم أحبها أبدا لتلاوة كتابنا الأقدس العزيز البليغ، وتشعرنى بالفجيعة للتغييب المريب لأصوات شيوخ المقارئ المصرية الرائعين: عبدالباسط والمنشاوى والشعشاعى والحصرى، وغيرهم.

أقول للسائق أن يُخفِّض من الصوت قليلا فينظر إلىَّ شزرا، فأُفهمه أننى مسلم ولا أزكى نفسى على الله فى حسن إسلامى لكننى لا أحب هذه الأصوات الجرداء وتلك الطريقة فى قراءة القرآن الكريم وبهذه الدرجة من ارتفاع الصوت، وأننى مرهق وأعانى من صداع وحولنا ضوضاء لا تسمح لنا بأن نستمع وننصت إلى كلام الله بما يليق بكتاب الله وكما أوصانا الله فى القرآن الكريم نفسه. يقول لى السائق إنه «بركة»، فأوافقه بلا تردد، على أن تكون هذه البركة بأصوات طيبة وأداء جميل وارتفاع معقول. وعندما نصل معا إلى حل وسط يزيل الاحتقان بيننا، أجد نفسى أقصُّ عليه حكاية فقدانى لحقيبتى الصغيرة وما بها.

فى رحلة بحثى الدائب عن مكتبى، التقيت بعشرات من هذا الصنف المصرى الجديد الغريب، كان أغربهم ثلاثة بدا لى تفكيرهم أعجب ما يكون، ومن الثلاثة اشتبكت مع أحدهم، فبعد أن ادَّعى «بوظان» العداد، وقاولنى مبتزا، ركبت وتكرر الجدل حول صوت المسجل الصارخ، ووصلنا إلى الحل الوسط، عرضت عليه مشكلتى، وإذا به يمعن فى سؤالى عن ثمن الكمبيوتر ومحتويات الحقيبة، ثم أفزعنى بمصمصته حاسدا السائق الذى عثر على الحقيبة فى سيارته، وأفزعنى أكثر أن أراه ينقلب من الحسد إلى المسامحة عندما قال ببساطة غاية فى البلادة «ياالله. رِزْق وربنا باعِتهوله. ربنا يباركله»، عندئذ وجدت هدوئى كله يتطاير، وسمعت صوتى يصرخ فيه: «قول صدق الله العظيم واقفل التسجيل. وشغَّل العداد».

والعجيب أنه أطاع ذلك كله على الفور، وبدا خائفا خوفا لا يتناسب مع ضخامة جسده، فأشعرنى بالتعاسة عليه، وعلى نفسى، وعلى بلدنا كله!

هذا التناقض العجيب بين الكذب وسلوك الاحتيال وبين الحرص على التشبث بإحياء زاعق لمظاهر التدين، بدا لى غريبا علينا نحن من عاصرنا روعة التدين العميق والجميل والأصيل لآبائنا من المصريين الطيبين الذين ظل تدينهم ملازما لحسن سلوكهم فى العمل والحياة والتعامل مع كل الناس دون تفرقة، ودائما بوسطية ورحمة.

من أين أتانا هذا التناقض المستجد، الفظ والمُشين؟ كنت أفكر فى ذلك وسط الصمت الذى ساد بينى وبين السائق، ومع استطالة الوقت بسبب الاختناقات المرورية المزمنة فى شوارعنا، التفت إلى الرجل ووجدته مهموما ومتداعيا، فرجَّحت أن يكون حسبنى واحدا من أصحاب النفوذ والقدرة على الأذى، فبادرته بالتفهيم إننى أنسان عادى لكننى مرهَق ومغموم، واعتذرت له عن صراخى فى وجهه، وهنا زالت عنه قشرة العتمة واستبان وجه المصرى البسيط المقهور، وأخذ يشكو لى ما يلاقيه من ابتزازات المهيمنين على المواقف والكمائن ومفارق الطرق وخدعة وزارة المالية التى جعلته يبيع سيارته القديمة ويشترى بضمانة البنك هذه السيارة الجديدة ليسدد ثمنها على أقساط مخصوم منها خمسمائة جنيه شهريا قيمة إعلان على جسم السيارة، ثم فجأة تخلت المالية عن ضمانها لخصم قيمة الإعلان بدعوى أن شركة الإعلان انسحبت من الاتفاق، فزاد القسط الشهرى عليه خمسمائة جنيه شهريا دفعة واحدة، كما أن نفقات الصيانة لمثل هذه السيارات التى ثبت أنها من أردأ فئاتها، تبين أنها كاوية الأسعار لدى التوكيلات التى باعتها.

لم تكن شكاية السائق إلا نسخة من شكايات عشرات ومئات سائقين آخرين مثله، وهى حقيقية ومريرة وتثير العجب من دولة لاتصدُق فى وعودها مع مواطنيها الذين لاسند لهم إلا الله، فكأنها شريكة فى الاحتيال عليهم لصالح أصحاب المصالح المسنودين من هكذا دولة، وليس على الضعيف المتضرر إلاَّ أن يضرب رأسه فى الحائط، وإن لم يعجبه ذلك تتكفل الدولة بضرب رأسه بنفسها فتسحب منه السيارة إن عجز أو تأخر فى سداد الأقساط، فتُصيِّعه وتُضيِّعه وتحوله إلى «شحات»، وهو أمر مرعب لرجال يعولون أُسرا يتوقف سترها على جهدهم وكدهم، فماذا يفعلون؟

البعض يُبدى بطولة إنسانية فى تحمل ما لا يطيق وما يقصف الأعمار، فيكدح فى الشوارع من أول النهار حتى آخر الليل، والبعض الآخر يتحايل ويكذب ليزيد من دخله، وعندما يعثر على «لُقيا» نسيها راكب فى سيارته لايعتبرها أمانة ينبغى أن تعود لصاحبها، بل رزق أرسله الله إليه! لكنه يوقن فى داخله بعدم جواز ذلك، فيتأكَّله الندم ويلتمس الغفران بأن «يشغّل» القرآن بأعلى صوت ممكن، أو يذيع شريطا من تسجيلات دعاة آخر الزمان، مرتزقة التهديد والوعيد والويل والثبور فى سفاسف الأمور، ظانا بأن ذلك يطهِّره من الذنب!

لقد أتاحت لى تجربة ضياع مكتبى أن أتأمل عن قرب ظاهرة التدين الشكلى فى قطاع من ممارسيه، فأراهم بشرا بسطاء وضعاف كأفراد فى مواجهة دولة غير أمينة معهم بل جابية لهم ومستنزفة لطاقتهم بأقسى الطرق وأكثرها عجرفة وغطرسة، دولة لا تحترمهم ولا تعبأ بكرامتهم المادية ولا المعنوية، وهم أمام هذا القهر يضطرون للإذعان، ثم يتحول داخلهم عدم احترام الدولة لهم وإذعانهم له إلى عدم احترام لذواتهم أنفسهم، ومن يستقر فى داخله عدم احترامه لذاته من السهل عليه أن يكذب ويتحايل، وليس بعيدا عن آليات التحايل يأتى التدين الشكلى الذى يدافع عن نفسه بآلية إضافية هى إقناع الذات بصواب ذلك، بل التمادى والتعصب فيه!

هذا التشوه ليس حصريا على هذه الفئة من الناس، بل هو واسع الاستشراء كما تعكسه السلوكيات التعويضية ذات القناع الدينى عند بعض المسلمين كما بعض الأقباط، والتى هى نوع من إزاحة العدوان الواقع على الذات والذى يصعب مواجهته، بعدوان بديل يسهل إسقاطه على الغير وتبريره بدعاوى دينية، وهذا ليس وقفا على طائفة دون غيرها، فما يمارسه بعض المسلمين المسيئين بالميكروفونات يمارسه بعض الأقباط المسيئين على شبكة الإنترنت. لهذا لا أرى فى وقفات ولا شعارات ولا أغانى وأهازيج «عاش الهلال مع الصليب»، التى بدأت مخلصة ثم شكلية بعد التفجير الإجرامى لكنيسة القديسين، إلا استرجاعا طيب النوايا لكنه شديد السطحية لعلاج مضى زمنه وانتهت فاعليته، بل قد تكون للمبالغة فى تعاطيه آثارا سلبية عكسية تفتقد المصداقية فى أى محاولة لرأب الصدع الذى بدأه حكم لم يحترم أغلبية مواطنيه، مسلمين ومسيحيين، بأشكال مادية ومعنوية، سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وبانحياز صارخ لفئة محدودة جدا من ذوى الحظوة، فتبدَّد لدى الكثيرين من عموم الناس احترامهم لأنفسهم، ومن ثم راحوا لا يحترمون بعضهم بعضا وإن من خلف أقنعة دينية ملفقة.

عندما تحترم الدولة مواطنيها، كل مواطنيها دون تمييز، لن نكون فى حاجة لأى هتاف أو شعارات للتعايش، لأن التعايش الحقيقى لا ينهض على الهتافات والشعارات بل على الاحترام المتبادل للمواطن كمواطن، والإنسان كإنسان، فى دولة عادلة، وهو حق لا ينكره أى دين، أو أى متدين حقيقى، بل أى بشر يحترم نفسه.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .