عادل صادق - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عادل صادق

نشر فى : الخميس 13 أبريل 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الخميس 13 أبريل 2017 - 9:25 م
فى طفولتى انتقلت للسكن بحى المنيل فى بناية يملكها صادق معوض المقاول الكبير فى حينه، وباستثناء عدد محدود من الشقق ــ منها شقتنا ــ كانت معظم الشقق الأخرى مسكونة بواسطة أقارب مالك البناية وأبنائه ومن بينهم المخرج الكبير عادل صادق. وعندما دخل التليڤزيون بيتنا كان مسلسل «القط الأسود» واحدا من المسلسلات التى شكلت وعيى فى وقت مبكّر جدا وتحديدا فى عام ١٩٦٤. والآن وبعد مرور أكثر من خمسين عاما لازلتُ أذكر هذا التمثال الأبنوسى اللامع للقط الأسود الذى كان يظهر فى مقدمة المسلسل فيبث الرعب فى قلبى ومع ذلك كنت أحرص على متابعة حلقاته يوميا. شُبِه لى وهذا القط يدور على قاعدة متحركة أنه قادر على النظر لى من كل اتجاه فكنت أغمض عينى ريثما يختفى، لكنه لم يكن يختفى فهو جوهر المسلسل ولبه بل إن هناك قطا أصليا وآخر مزيفا وكانت الأحداث سجالا مشوقا بينهما. وهكذا ارتبطتُ بعادل صادق منذ طفولتى بشكل تلقائى قبل أن أعرف من هو وأبحث عن اسمه على الدراما التليڤزيونية المحترمة مثل «الرجل الثالث» و«الشاطئ المهجور» وبطبيعة الحال درته «يوميات نائب فى الأرياف» عن رواية أديبنا الكبير توفيق الحكيم.
***
كانت الصورة التى تكونت فى ذهنى عن عادل صادق أنه مخرج بارع وأن نقطة تميزه هى المسلسلات البوليسية، وصنعت هذه الصورة من حوله هالة بها كثير من الرهبة وأيضا الغموض. إضافة إلى ذلك كانت هناك عوامل أخرى ساعدت على تضخيم العالم المسحور لعادل صادق فى مخيلتى، فقد كان مخرجنا الكبير يسكن فى الطابق الخامس على ما أظن وكان الصعود إليه يمر عبر هذه الآلة العجيبة «المصعد» التى تحمل سكان الأدوار السفلى ببطء ممتع إلى أجواء جديدة لا قِبل لهم بها. وكانت الفتحات الموجودة فى باب المصعد الحديدى تسمح بمتابعة كاملة لعملية الصعود إلى أعلى وتأمُل تفاصيل هذا الحدث الفريد، وهكذا كنت كثيرا ما أمُر بعد عودتى من المدرسة بالمصعد وأضغط على زرار الطابق الذى يسكن فيه عادل صادق وأتوقف عنده لثوان قليلة ثم أسارع بالنزول إلى الدور الأرضى حيث أقيم، وكانت هذه اللعبة العبثية تشيع فى نفسى بهجة غير مبررة. أكثر من ذلك حدثنا أصدقاء عن أنه يوجد فى روف البناية حمام للسباحة وهذا حلم عزيز بالنسبة لكل الأطفال، فضلا عن أنه كان من غير المألوف فى ستينيات القرن الماضى أن تكون هناك حمامات للسباحة على أسطح البنايات، لكن لماذا لا يتيح لنا أصحاب العمارة استخدام حمام السباحة؟ لماذا لا يصدرون للسكان كارنيهات دخول كما تفعل النوادى الرياضية لأعضائها؟ كان هذا النوع من الأسئلة يطاردنى كلما اشتدت حرارة الجو وطاف بذهنى أن فى أعلى البناية يوجد أطفال يسبحون ويلعبون.
***
وذات يوم انتبهت على ضجة كبيرة خارج الشقة، وقفت على أطراف أصابعى وفتحت «الشراعة» الحديدية فرأيت منها عجبا، رأيت صبيتين جميلتين تتضاحكان وهما تصعدان الدرج وعرفت فيهما الفنانتين بوسى ونورا.. معقول؟ بعد قليل صعد عدلى كاسب فرنت ضحكته المميزة فى أذنى وابتسمت فى سعادة، صعد سلامة إلياس ويوسف شعبان ونظيم شعراوى.. وطاش صوابى فهؤلاء نجوم كبار لكنهم الآن معنا فى بنايتنا، هل أدعوهم للدخول؟ لا لن يقبلوا دعوتى فهم سيركبون المصعد وسيصورون بعض المشاهد التليڤزيونية وقد يجلسون حول حمام السباحة.. ليتنى كنت معهم. تكررت الضجة إياها مرة أخرى وراقبت مجددا موكب النجوم وهو يمر بباب شقتنا صاعدا إلى أعلى وقررت ألا أدع مثل هذه الفرصة الثمينة تذهب دون أن أغتنمها.
***
اشتريت أوتوجرافا أخضر على شكل قلب وتحينت فرصة عبور عادل صادق من أمامنا حتى إذا عبر فتحت باب شقتنا وطلبت منه وأنا أكاد أموت خجلا لو أمكن أن يحصل لى على توقيعات هؤلاء النجوم فى أى مرة يستضيفهم فيها، سألنى عن اسمى وأجبته فربّت كتفى وابتسم. مرت أيام كثيرة بعد هذه الواقعة وتوالت مواكب النجوم ولم يعد لى الأوتوجراف الثمين، هل أسأل عنه؟ هل يذكر عادل صادق الواقعة أو يذكرنى؟. سألت وعلمت أن الأوتوجراف فُقِد فى ظروف غير معلومة لكن يمكننى أن أشترى أوتوجرافا آخر مع تعهد بتوقيع من أشاء من النجوم ــ هكذا قيل لى. عندما أذكر حزنى الشديد على ضياع الأوتوجراف أتعجب كيف تتغير أوزان الأمور وقيمتها من مرحلة لأخرى فقد جاءت عليّ لحظة خلتها نهاية العالم وقد فقدتُ أوتوجرافى العزيز، ولقد تكرر هذا الخيال فى لحظات أخرى كثيرة فقدت فيها أشخاصا وعلاقات وأشياء لكنها كانت نهايات كاذبة كما هى نهاية التاريخ عند فوكوياما.
***
علمت بوفاة المخرج الكبير عادل صادق وكنت خارج مصر فحزنت حزنا شديدا، ضُخَت فى ذاكرتى بسلاسة كل الأيام الحلوة فى حى المنيل قبل أن أنتقل منه إلى صحبة النيل، سحبت الأوتوجراف الجديد/القديم من خزانتى وطالعت عليه توقيعات النجوم وأكثرهم صعد إلى السماء ليرصع لياليها بنوره لكن للعجب فاتنى توقيع عادل صادق نفسه فكيف كان هذا؟ تراءى لى عادل صادق وقد صرت فى السنوات الأخيرة أصادفه على فترات متباعدة كلما زرت بيتنا القديم فأجده قاصدا المسجد ليصلى لا ضجة على الدرج ولا نجوم على الروف، دعوت له بالرحمة فقد أمتع طفولتى بما لم يعلم أبدا وقدم لملايين كنت من بينهم فنًا صادقًا تمامًا مثله.

 

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات