فتح ملف الإيجار القديم فى هذا التوقيت لم يكن قرارًا تشريعيًا فحسب، بل خطوة سياسية محفوفة بالمخاطر، فالقضية التى تراكمت عبر عقود، تمس مئات الآلاف من الأسر المصرية، وتضرب فى عمق علاقة معقدة بين المالك والمستأجر تجاوزت حدود العقود واللوائح لتصبح واقعًا اجتماعيًا مستقرًا لا يسهل تغييره بجرة قلم.
يبدو الرهان الحكومى فى طرح مشروع تعديل القانون نظريًا، إذ ترغب الحكومة فى تصحيح تشوهات تاريخية وتحقيق توازن مفقود بين طرفى العلاقة الإيجارية، لكن التطبيق العملى اصطدم سريعًا بوقائع لا يمكن تجاهلها، من حيث التأثير على الحق فى السكن وتهديد الملايين من أصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة بالخروج من منازلهم، فضلًا عن التوقيت السياسى والاقتصادى الضاغط الذى لا يحتمل معه صدمات اجتماعية جديدة.
جاء المشروع الحكومى استجابة لحكم المحكمة الدستورية العليا الصادر فى نوفمبر الماضى، بعدم دستورية ثبات القيمة الإيجارية، الذى ألزم البرلمان بتعديل التشريع القائم لضبط العلاقة الإيجارية، وإلا سيفتح الباب لطعون قضائية بعد نفاذ حكم المحكمة بنهاية دور الانعقاد الحالي، قد تقود إلى فراغ تشريعى.
غير أن الحكومة لم تكتفِ بالتعامل مع الشق المتعلق بالقيمة الإيجارية فقط، واقتراح زيادتها عشرين ضعفًا ثم زيادتها سنويًا بنسبة 15%، بل تخطتها لتصل إلى إنهاء العلاقة الإيجارية وتحريرها خلال خمس سنوات، مع النص على منح المستأجرين أولوية فى برامج الإسكان الاجتماعى التى تطرحها الدولة، وهو نص لا يتضمن إلزام صريح للحكومة بتوفير الوحدات للمستحقين وغير القادرين بعد مدة الخمس سنوات.
***
وضع هذا المأزق البرلمان بين مطرقة الالتزام القانونى وسندان الكلفة السياسية والاجتماعية، ورغم توافق بعض الأحزاب بشكل تلقائى مع الحكومة فى عدة قوانين وملفات، لكنها أدركت خطورة توقيت إصدار القانون الذى يأتى مع المرحلة التمهيدية للانتخابات البرلمانية المقبلة؛ حيث تبدأ الأحزاب إعادة ترتيب صفوفها، ويزداد احتكاك النواب بالناخبين.
مع وجود حالة من الغضب تجاه الأوضاع المعيشية وارتفاع الأسعار، يهدد تمرير قانون يمس السكن شعبية هذه الأحزاب وتواجدها فى الشارع، ويبدو أن الأغلبية البرلمانية التى يمثلها حزب مستقبل وطن، ومعه بعض الأحزاب الأخرى، قررت ألا تنتحر انتخابيًا بهذا المشروع قبيل الانتخابات المرتقبة بعد أشهر قليلة.
أعلن حزب مستقبل وطن موقفه معترضًا على رفع القيمة الإيجارية عشرين ضعفًا، ورافضًا تحرير العلاقة الإيجارية بعد خمس سنوات، فيما طالب حزب الجبهة الوطنية بالتقيد بحكم المحكمة الدستورية، ورفع قيمة الأجرة فقط، واقترح بعض نواب حزب الشعب الجمهورى خروج المستأجرين بتفاوض وتعويض مقنن، بحيث يحصل المستأجر على 25% من قيمة الوحدة السكنية مقابل إخلاء الوحدة وتسليمها للمالك.
يحاول النواب طرح بدائل أخرى، فمع التسليم بضرورة معالجة التشوهات فى العلاقة الإيجارية والظلم الواقع على الملاك الذين يتقاضون أجرة زهيدة، وغير قادرين على الاستفادة من ثرواتهم العقارية، يظل هاجس الأمن الاجتماعى ماثلًا أمام الجميع، فتمرير قانون يعيد توزيع موازين القوى فجأة، دون تمهيد مجتمعى واقتصادى كافٍ، ينذر بتفاقم النزاعات القضائية، وتزايد حالات الإخلاء القسرى أو غير القانونى.
يبدو الوضع شديد التعقيد، فالملاك الذين ورث كثير منهم عقارات أجدادهم، يتقاضون أجرة رمزية لا تكفى ترميم الأبواب، ولا يمكنهم الاستفادة من أملاكهم رغم أن بعضهم يعيش ظروفًا مادية صعبة، فهم أسرى عقود لا تعكس القيمة الحقيقية لأملاكهم.
على الجانب الآخر، يرى المستأجرون فى هذه الوحدات مأوى استقروا فيه لعقود، ولا يملكون بدائل ميسورة وممكنة لو أُجبروا على الرحيل، خاصة أن نحو 33% منهم من أصحاب المعاشات بحسب دراسة للمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية صدرت فى 2019.
كما أن الأزمة الأعمق فى سوق العقارات التى قد لا تستوعب انتقال الملايين من سكنهم بحثًا عن سكن آخر فى فترة وجيزة، خاصة مع الفقاعة العقارية الواضحة وارتفاع أسعار الإيجار المحدد المدة، وغياب برامج الإسكان منخفض الكلفة، ما يجعل فكرة تحرير العلاقة الإيجارية أقرب لوصفة نظرية منها لخطة عملية قابلة للتطبيق.
•••
يعزز غياب الرؤية العملية لتحرير العلاقة الإيجارية، إقدام الحكومة على تقديم مشروع القانون دون الاستناد لدراسات وإحصائيات لقياس الأثر التشريعى على المجتمع، فاكتفت بالاعتماد على أرقام التعداد السكانى التى يعدها الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء كل عشر سنوات، التى كان آخرها فى 2017.
لم تقدم الحكومة أرقامًا جديدة بشأن عدد المستأجرين أو عدد الوحدات أو طبيعة دخول المستأجرين وتصنيفهم اقتصاديًا واجتماعيًا وعمريًا، وضعت تصورًا يقضى بإخلاء أكثر من 1.6 مليون وحدة سكنية دون خطط أو دراسة، فأصبح تطبيق مثل هذا المشروع مغامرة غير محسوبة العواقب.
من أجل الوصول لحلول، لابد أن يبتعد أى تحرك واقعى فى هذا الملف عن الحسم الحاد لصالح طرف على حساب الآخر، فما تحتاجه الدولة والمجتمع هو خريطة طريق تراعى الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية معًا، والتدرج فى تعديل القيمة الإيجارية، ومد فترات التطبيق لآجال أطول، والتوسع فى بدائل الإخلاء الرضائى مقابل تعويضات عادلة للمستأجرين، وكلها أدوات يمكنها الحد من حالة الاحتقان والانتقال من خيار المواجهة إلى التفاوض، فى الوقت نفسه، يجب على الحكومة تطوير قاعدة بيانات دقيقة تحدد طبيعة الوحدات، وفئات المستأجرين، وأوضاع الملاك، بدلًا من تطبيق معايير موحدة على كل الحالات، فليس كل مستأجر مستفيدًا جشعًا، كما أن ليس كل مالك متضررًا معدمًا.
• • •
لقد تأخر فتح ملف الإيجار القديم عقودًا، لكن ذلك لا يعنى أن الحل الوحيد هو التغيير بقفزة مفاجئة، فالحق فى السكن عنصر أساسى للاستقرار الاجتماعى ولا يحتمل المغامرة، فما بين جدران العقارات القديمة، تتقاطع حكايات الملاك والمستأجرين، كلٌ يحمل همّه وأسئلته عن الغد يتطلعون إلى القرار النهائى لمجلس النواب، لا ينتظرون قرارًا ينتهى إلى نص قانوني، بل باعتباره مصيرًا يحدد إن كان بإمكانهم الاحتفاظ بما تبقى من أمان، فى زمن باتت فيه الخيارات أضيق مما يحتمل الجميع.