منذ بداية القرن العشرين مرت مصر بعدة ثورات كلها لأسباب اقتصادية وسياسية، فكانت ثورة ١٩١٩ ثورة غرضها الأساسى هو استقلال مصر من الاحتلال البريطانى وإن صاحبها فى الريف عنف شديد بسبب المجاعات التى حدثت خلال الحرب العالمية الأولى والارتفاع الشديد فى أسعار الغذاء بالإضافة إلى تعاون العمد والشرطة فى جمع الفلاحين للاشتراك فى الفيلق المصرى وعند عودتهم انتقموا من السلطات المحلية وشجعهم على ذلك ثورة المدن التى تطالب بالاستقلال والدستور. حققت هذه الثورة بعض الأهداف التى لم تكن فى خطط الثورة مثل ظهور فن حديث من غناء ومسرح وظهور مطربين عظام مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وصناعات سينمائية وكُتاب مثل طه حسين، وحسين فوزى، وسلامة موسى.. وغيرهم. قاد هذه الثورة بعض المفكرين الذين كانوا يشجعون أفكار الحداثة ولكنها كانت قلة لم تصل إلى جموع الشعب. ووضعت هذه الفترة مبادئ التعليم المتميز على جميع المستويات ولكنه كان مقصورًا على نسبة معينة من السكان. وكان التعليم الابتدائى فقط مجانيًا حسب دستور ١٩٢٣ ولم تكن فكرة الثورة العلمية البحثية موجودة.
وجاء تنظيم الضباط الأحرار الذى كان يضم مجموعة من الضباط يمثلون تيارات من مختلف الاتجاهات وكثير منهم مارسوا السياسة قبل عام ١٩٥٢ وبعد الثورة برز زعيمها جمال عبد الناصر الذى حكم مصر من ١٩٥٤ وحتى رحيله عام ١٩٧٠. كان عبد الناصر عنده أفكار ثورة فكرية وعلمية حقيقية وأثر عليه نهرو فى هذا الاتجاه وأصبح مشروع الثورة الفكرية والعلمية أحد مشروعاته الهامة مثل إنشاء المركز القومى للبحوث ومركز أنشاص للبحوث النووية. ولكن هذه المشروعات انهارت تمامًا فى النهاية لعدة أسباب أهمها أنها مشروعات تتطلب تفرغًا شبه تام من أى دولة للنهوض بها، وأن يكون لها أولوية فى الاستثمار لأنها المستقبل الحقيقى. وهذا لم يحدث فانشغال عبد الناصر بعد مؤتمر باندونج بالزعامة العربية وليس فقط المصرية أدى إلى إضاعة وقت وأموال ومجهود ومعارك كان فى إمكان مصر لو نجحت فى المشروعات الفكرية والعلمية أن تكون قائدة الدول العربية بلا منازع، بدون معارك كلامية وحروب خارج الحدود.
ثم إن نجاح المشروعات الفكرية والعلمية يلزمه قدر معقول من الحرية وذلك لم يكن متوفرًا وتولت قيادات هذه المشروعات شخصيات من أهل الثقة وليس أهل الكفاءة وهذه المشروعات كانت تتطلب شجاعة وعدم خوف فى التجريب والتحديث سواء كانت أمور علمية أو فكرية وهذا لم يكن متوفرًا وجاءت نكسة ١٩٦٧ فقضت تمامًا على هذه المشروعات المستقبلية وتفرغ الرئيس عبد الناصر لبناء الجيش من ناحية والمجهود الدبلوماسى مع الغرب والشرق والبلاد العربية من ناحية أخرى.
وفى عصر الرئيس السادات استكمل ما بدأه الرئيس عبد الناصر فى بناء الجيش حتى تحقق العبور العظيم فى أكتوبر ١٩٧٣ وركز الرئيس السادات خلال مدة حكمه على المباحثات السياسية لاسترداد سيناء وهو ما تم بمعاهدة السلام مع إسرائيل والتى قاطعت الدول العربية مصر بسببها لعدد من السنوات وكانت معارك استرداد سيناء والخلافات مع العرب تستهلك وقتًا طويلًا وجهدًا.
ركز السادات على مشروعات الانفتاح فدخلت مصر أموالًا طائلة كان من الممكن لو صرف جزءًا منها فى المشروعات العلمية والفكرية لحدث طفرة.
وأدى دخول الأموال إلى عودة القطاع الخاص الذى هو شديد الأهمية فى الاقتصاد ولكن عودة هذا القطاع بدون قوانين دقيقة ومنظمة «ليعرف كل مستثمر رأسه من رجليه» أدت إلى ظهور فساد عظيم وأصبح القطاع الخاص الحقيقى يلاقى صعوبات بينما كبار الفاسدين يصعدون السلم بسرعة فائقة وأدى ذلك إلى ازدياد انسحاق الطبقة الوسطى وهى الطبقة الصانعة للتقدم والمحافظة على وحدة المجتمع. ثم كان خوفه غير المبرر من اليسار والذى أدى إلى مساعدة الجماعات الإسلامية بطريقة مباشرة للانتشار، وهو الذى أدى إلى مصرعه على أيديهم وبهذا مرت هذه الفترة بدون حتى التفكير فى المشروعات العلمية والفكرية.
فى عصر الرئيس مبارك، والذى استمر ما يقرب من ثلاثين عامًا، كان فكره وفكر من حوله يتركز فى عدم تغيير أى شىء، فكان المسئولون يستمرون فترات طويلة بغض النظر عن كفاءتهم.
استمر الفساد الذى بدأ فى عصر السادات وازدادت درجته ومع طول مدة الحكم تفاقم الفساد. وعندما بدأت فكرة التوريث حاول النظام أمرين أولهما تعديل النظام السياسى بتغيير الطاقم القديم إلى طاقم جديد فشل فى أن يجذب بعضًا من الشعب معه مثل ما كان يفعل النظام القديم بل قدم شخصيات عديمة الشعبية وبالرغم من كفاءة بعضها إلا أنها كانت تعمل فى ظروف صعبة وحاولت بعض الحكومات عمل تعديلات جذرية إلا أن المقاومة كانت صعبة وفى جميع الأحوال كان كل شىء مركزا على الاقتصاد والبيزنس أما المشروع القومى الذى كان من الممكن أن يرفع مصر بعد عقدين من الزمان لم يكن على البال وليس فى المقدمة.
فمثلًا الساحل الشمالى الطيب وحتى مارينا قامت ببنائه الحكومة، فى حين كان يجب أن تصرف هذه الأموال فى هذه المشروعات القومية وتترك هذا العمل للقطاع الخاص بقواعد تعطى الدولة حقها.
فى النهاية تفاقمت الأمور وبدأت ثورة ٢٥ يناير التى قام بها مجموعة من الوطنيين المصريين وكان وقودها شباب الثورة وأعلن المرشد للإخوان فى بيان رسمى أنهم لن يشاركوا فى الثورة ولكنهم عندما شعروا بنجاح الثورة انضموا لها. ولم تحقق الثورة أهدافها وبالطبع لم يكن أحد يفكر فى مشروعات قومية فى هذه الفترة إلا أنه للإنصاف وقع المشير طنطاوى، الذى كان رئيس المجلس العسكرى المكلف بعمل رئاسة الجمهورية، على اتفاقية إنشاء جامعة زويل وهو كان مشروعًا قوميًا ممكن أن يؤدى إلى نتائج علمية مبهرة لو كان قد ترك فى حاله ووافق على المشروع مجلس النواب وبدأ التنفيذ وخطا المشروع خطوات ممتازة حسب قانونه، وفجأة قررت الحكومة تغيير نظام جامعة زويل بمشروع جديد وافق عليه البرلمان منذ حوالى ٤ سنوات وبدأت سنوات التدهور العظيم وفقد المشروع الغرض الأساسى منه وهو بناء كفاءات علمية بحثية بالنابغين من الطلاب لتطوير الاقتصاد والصناعات باختراعات تدخلنا إلى عالم آخر بأرباح خيالية ولن أدخل فى تفاصيل هذا الموضوع لأن كوارثه كثيرة آخرها حدث أخيرًا.
بعد انتخاب الرئيس السيسى قضى فترة أولية فى إعادة استتباب الأمن وبعد ذلك ركز على مشروعات قومية ضخمة فى البنية التحتية بعضها كان هامًا وبعضها كان يمكن عمل دراسات جدوى له، وتم إنشاء العاصمة الإدارية التى كان من الممكن أن تُبنى على فترات بعد عمل الدراسات اللازمة، أدى ذلك إلى قروض ضخمة تكبل الاقتصاد المصرى فى جزء كبير من الناتج القومى يستخدم فى سداد الفوائد والأقساط وهو ما أدى إلى انخفاض العملة المصرية والتضخم الكبير وزيادة صعوبة الحياة على المصريين.
قام الرئيس ومساعدوه بعمل اجتماعات ومؤتمرات لحل المشكلة الاقتصادية وأرجو أن ينجحوا فى حل هذه المشكلة، ولكنه بالتأكيد لا توجد أموال للاستثمار فى مشروعات مستقبلية قومية لبناء مؤسسات علمية وفكرية والتى يجب أن يتواكب معها إصلاح جذرى فى التعليم، وهى الأمل الوحيد بأن تلحق مصر بالعالم المتقدم بعد سنوات.
بقى نقطة أخيرة وهى أن الفساد كان محدودًا فى عهد عبد الناصر ولكن بعد ذلك تفاقم الفساد فى كل العصور بدرجة كبيرة. يجب التحكم فيها لأنها تدمر الاقتصاد وما يضيع على الدولة بسبب الفساد يمكن أن يقيم منشآت علمية عظيمة.
أرجو لمصر فى العهد الحالى أن تنظر القيادة إلى المشروعات البحثية لتكون قادرة بعد سنوات على ابتكار وتطوير تكنولوجيا متقدمة أرباحها عظيمة ولا تحتاج إلى طاقة ولا مبانٍ عملاقة وإنما فقط لعقول بشرية تعلمت جيدًا واندمجت فى البحث العلمى بحب وإخلاص. وهذا ما فعلته الهند وكوريا الجنوبية وماليزيا، وقبل كل هؤلاء إسرائيل، التى ركزت على صناعات بالغة الدقة وأصبحت تنتج وتبيع تكنولوجيا بأسعار باهظة للعالم كله، وللتذكرة فهى تنفق خمسة ونصف فى المائة على البحث العلمى بينما تنفق مصر أقل من ربع فى المائة من إجمالى الناتج المحلى.
أرجو أن نقوم بتغيير المسار حتى تتحسن أحوال أولادنا وأحفادنا ويذكروننا بالخير.