في مستعمرة العقوبات - محمد علاء الدين - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 5:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في مستعمرة العقوبات

نشر فى : الإثنين 13 أكتوبر 2014 - 1:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 14 أكتوبر 2014 - 11:28 ص

كنا نمشي في المدينة الواسعة، وفجأة قال لي عمرو الكفراوي "يعني حتي السيطرة دخلت في الاعلانات.. دي حاجة تجنن". تذكرت اعلانا كان يعجبني، لماركة اطارات مشهورة، كانت الجملة الرئيسية فيه "لا قوة بدون سيطرة"، قلت له ان الموضوع فعلا منطقي، وتواشجه مع اطارات العربة شبه شاعري. سمعني بصبر، ثم اشار لاعلان يطل علينا من عل، قائلا لي "البطاطس يا علاء.. البطاطس". البطاطس؟!
رفعت نظري لما يشير إليه، ورأيت اعلان رقائق البطاطس الشهير، الذي يقول "تايجر وسيطر".

بالفعل كان لديه حق، ووجدت نفسي افكر بعدما مضى كل منا في طريقه؛ اي سيطرة هذه التي هي في رقائق البطاطس؟! ما المبرر الوحيد لوضع معنى كهكذا في الاعلان، إلا لمداعبة رغبة مرضية في السيطرة والتحكم، ولمن؟ للأطفال؟
لا يبدو الامر عجيبًا حين تتذكر ان بعض لا بأس به من "المتحرشين" هم من الاطفال. الموضوع، كما هو في كل شيء حولنا، لا يرتبط بالجنس، بل هو بالسيطرة، بالتنكيل، بالتحكم المرضي، الذي يرضعه كل الناس من صدر نافر، في شوارع تطاردك بعيون قاطنيها. هكذا ينتهك الطفل الانثى، المحقرة المهزومة المستباحة، ليثبت لنفسه انه رجل.

لي صديقة اجنبية، حكت لي في مرة أنها قد ضاقت ذرعا بكل الاشارات البذيئة والكلمات الوضيعة التي تلقى عليها في الطرقات، ولم اتميز انا بانعدام الحس في تذكيرها بكون كل نساء مصر ورجالها منتهكين بطريقة أو بأخرى، واكتفيت باستماع متعاطف. قالت انها انتهزتها فرصة، حين اقترب منها شاب يافع في شارع ما، وهتف بها بانجليزية مكسرة وشائهة "اريد ان اضاجعك"، فنظرت اليه في عينيه، وهتفت به بمصرية مكسرة ايضًا "طيب يالا..". حكت لي آن الفتى قد نظر لها متفاجئا، ثم عدا بعيدًا في رعب.

حتي عندما يتحدثون عن العقوق، ويهولون بدرامية عن الابناء الاوساخ، يمكنك ان تعرف أن هناك من الناس من هم مهزومون في خارج بيوتهم، حتى تمنوا أن يكون ابنائهم هم عبيدهم المخلصين. لا احد يسمعهم في دروب المدينة القاسية، فاستماتوا في جعل ابنائهم اذنا كبيرة بلا حيلة ولا قوة، حين يعاملون انفسهم ليسوا كالاباء، بل كالسادة، او صورة السادة الذين يسحقونهم خارج اربعة حيطان، وربما داخلها ايضًا.

لم تكن اغنية "الطيب في الزمن ده" القديمة غير تعبير عن منظور حقيقي، ليس في نقد الاستكانة قدر ما هي في توضيح أن القوة هي في الانتهاك، لأن الطيبة، أو الاستكانة، تعني ضعفا : هكذا كان القوي منتهكًا بالضرورة لضعيف مٌنتهَك، التحرش الجنسي ما هو إلا اذلال متعمد للنساء، انتهاك، تحقير واستباحة، مثلما يفعل "رجل القانون" بضحاياه من مجرمين محتملين، ليتحولوا فعلا إلى مجرمين حقيقيين. هكذا يؤطر البؤس نفسه، في امه تنتهك نفسها، هكذا حتى يبيعون رقائق البطاطس للاطفال، قائلين لهم: سيطروا.

ملايين من المنتهكين، بكل انواع الانتهاك واشكاله، يقبعون صامتين، مستعينين بالابتسامات الخائفة والاشارات الوجلة، مرتدين ادبًا مصطنعًا وتزلفًا لزجًا، وربما يرتدون الايمان كبدلة واقية، يقبعون في كل ركن من الاركان، حتي لحظة معلومة ومبتغاة.

حين يكبرون سيضربوننا.

محمد علاء الدين روائي مصري
التعليقات