الكليوباترا لا تزال في جيبي - محمد علاء الدين - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكليوباترا لا تزال في جيبي

نشر فى : الإثنين 29 سبتمبر 2014 - 6:35 م | آخر تحديث : الإثنين 29 سبتمبر 2014 - 6:59 م

في مرة، كنا جالسين كالعادة في ليل دار ميريت العامر، وكان جالسًا معي العديد من اهل الدار المعروفين، وبقربي يجلس احمد اللباد، فنان الغلاف الشهير ووراث الاسم الثقيل لمحيي الدين اللباد، وحمدي أبو جليل، الروائي المعروف وصاحب جائزة نجيب محفوظ، فجأة قال اللباد الصغير لحمدي معابثًا وضاحكًا «اللي يشرب كيلوباترا بعد الأربعين يبقي فاشل!». كانت طرفة بخصوص حمدي الذي تجاوز الأربعين ولم يتجاوز الكيلوباترا. ضحكت ولكنني لم أغالِ في الضحك، وسرح عقلي في أن مقياس اللباد الصغير، على طرافته، وبالتفكير فيه فعلا كقاعدة عامة لا تخص حمدي، قد يحمل حقيقة ما.

بدأت التدخين صغيرًا، في بلاد كان تبغها ذائع الصيت في القرن التاسع عشر، حتى كتب الروائيون إشارات إلى «التبغ المصري الفاخر»، ومنهم ماركيز مثلا. الأمر ليس بعجيب في بلاد أسس دولتها الحديثة من يدعونه «ابن الدخاخني»، نسبة لأبيه بائع الدخان قاطن قولة، ثم لتجارته الاحتكارية النشيطة في مهنة الأب حتى صارت الشرقية للدخان مثلا مصنعًا لسلعة هي من «الأمن القومي» سواء في أيام ابن الدخاخني أو ابن الجنايني، والذي اتفق كلاهما، أيضًا رغم ما صنع الحداد، على أننا سواء بقرًا أو حميرًا، وعلى كل فهي بيئة زراعية، يدعي ابن الجنايني أنه يتبع خطوات ابن الدخاخني في تحويلها إلى قلعة صناعية، وبالطبع في مقدمتها مصنع السجائر.

في طفولتي، كانت هناك لقطة من فيلم يمثل فيه أنور وجدي والطفلة المعجزة فيروز، حيث يهتف بها أحد أفراد العصابة، ويكلفها بشراء علبة «كوتاريللي رفيع»، ويهتف بها وهي تغادر الكادر «رفيع.. هه.. رفيع!». وعلى بعد دقيقتين من بيتي، وفي مواجهة سنترال باب اللوق، كان يمكنني رؤية إعلان كبير لسجائر كوتاريللي الفاخرة، التي لم أتشرف بتدخينها أبدًا: كانت أول علبة اشتريها هي الجولد كوست، ماركة منقرضة قد يتذكرها أبناء جيلي، في أيام حفلت بهجوم مفاجئ من ماركات تحت أسماء أمريكية مثل «كنساس»، وسيئة الذكر «بوستون»، مع رجوع لأشباح الماضي في سجائر مثل «كابيتول» و«بارلمنت»، وسجائر جديدة مثل توشكى التي لم يكن حظها أحسن من المشروع ذاته، رغم علبتها المبتكرة – آنذاك – ذات العشرة سجائر.

تعددت السجائر في أيام شبابي، وبدا الأمر وكأنه ملاحقة للانفتاح السياسي وتعدد الأقطاب، فكما كان هناك مارلبورو، فقد كانت هناك سجائر بورسعيد طبعًا. قالوا لي إنه في الماضي لم يكن هناك غير نوع واحد للسجائر، مثل الاتحاد الاشتراكي، واسمها السيجارة البلمونت، وهي ما تزال حية ترزق حتى الآن، ولكنني لم أعثر على مدخن لها اللهم إلا صديق قديم لوالدي، مدرس رياضيات وفرنساوي في غياب مدرس الفرنساوي، ويحمل لقب سمير دوجلاس، وعندما سألت عن سبب اسم الشهرة؛ لأنه حليق تمامًا كالرومان، أجابوني بأن السبب هو شبهه الكبير بالممثل الأمريكي كيرك دوجلاس. وجدت نفسي أقول «آه». الثاني الذي وجدته يدخن البلومنت هو الناقد الأدبي سيد الوكيل، والذي ثاب إلى رشده وأصبح يدخن سجائر الفلوريدا حاليًّا.

في ليلة قريبة كنت أشتري سجائري، في الطريق قافلا إلى المنزل، وفوجئت بسجائر الجولواز، ورجع عقلي، في ثانية، الى باريس وفرانسواز ساجان. سألت الرجل الطيب الذي الفني والفته: "بكم؟". "اربعة عشر جنيه،" اجابني. "فقط؟" قلت له مندهشًا. وضح لي أن الموضوع يتبع منصور شيفروليه وهو يحاول تسويقها. تذكرت حين بت ليلتي عند صديقة ألمانية جميلة ورقيقة، ونزلنا لنلتهم إفطارًا في مطعم فرنسي صغير لطيف، في منتصف برلين، وبما أن سجائري المصرية الصنع قد فرغت وأنا لست في بيتي الذي أحتفظ فيه بالباقي، كان لزامًا علينا أن نشتري سجائر جديدة. ذهبت لابتياع السجائر وجاءت بالجولواز الحمراء. قلت لها «صباح الخير أيها الحزن» فلم تفهم، شرحت أن هذا هو اسم الرواية الأولى الجميلة لساجان – قبل أن تتحول لكتابات بوليسية تافهة – وفيها قرأت عن سجائر الجولواز (في هذا أم «هل تحبين برامز؟»). دخنت السيجارة وقلت إنها ليست بالثقل الذي كنت أتخيله، أجابتني بأن الحمراء هي السيجارة الأخف. «فعلا؟» سألتها، فأكدت لي: الزرقاء هي الأثقل. قلت للبائع الطيب المعلومة، فضحك وقال لي «لا، في مصر الأثقل هي الحمراء». وجدت نفسي أسأل ثانية، وفي مكان يبعد الآلاف من الكيلومترات، وفي وقت مختلف: «فعلا؟» أجابني أن نعم. أخبروهم بهذا الموضوع عند إحضار علب السجائر المجمعة، وقالوا إن المصريين لن يفهموا أبدًا موضوع أن الزرقاء هي الأثقل. لديهم حق طبعًا. كنت أفكر في موضوع الانتقال لتدخين الجولواز، حين طلب أحدهم علبة كليوباترا بوكس سوداء. قلت من فوري ودون أن أفكر «بوكس سوداء؟!». ضحك الرجل وهتف بي «أكنت مهاجرًا يا عم؟!».

على العموم، جرب صديق الكليوباترا السوداء وقال لي إنها لا تفرق عن الكليوباترا الحمراء، وأنا في الحقيقة لا أفهم عائلة الكليوباترا نفسها، حتى ولو قالوا لي إنها سجائر في الحقيقة جديدة، فقد سبقتها علبة سجائر تدعى نفرتاري. ما تزال الحضارة الفرعونية تتشرف باستخدامنا لها في أسماء علب السجائر الرديئة، أو على عربات ادعى الضباط أنها مصرية.

ما تزال ميزة كليوباترا هي أولا أنك لو وضعتها في كوب ماء فلن تجده حافلا بالديدان، مثلما تقول الأسطورة الحضرية القديمة عن سجائر الإل إم، ورخصها مقارنة بالمارلبورو: لقد بدأت تدخيني والعلبة بثلاثة جنيهات وخمسة وسبعون قرشًا، والآن هي فعليًّا بواحد وعشرين جنيهًا في أقل من عشرين عامًا، ومنذ خمس سنوات فحسب كانت علبتها بثمانية جنيهات فقط. تذكرت أيامي في بريطانيا، حين اتجهت للف تبغ الجولدن فيرجينيا لأنها أرخص من علبة المارلبورو الأحمر التي أدخنها عادة، قالوا لي إنه منذ عشر سنوات فحسب كان لف التبغ من سمات معتادي الإجرام و«رد السجون»، ولكن الأمر صار عاديًّا الآن.

حسنًا، صارت عندنا السجائر غالية مقارنة بالسلع المحلية الأخرى، مثل أوروبا، ولكن ما يزال ينقصنا التعليم والصحة والمرافق والطرق والطاقة والإعلام والثقافة والرياضة والتكنولوجيا والحرية والمساواة بين الجنسين ودولة الرفاه وجيش في دولة حديثة. هانت.

محمد علاء الدين روائي مصري
التعليقات