رحيل فارس مصرى عظيم - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 8:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رحيل فارس مصرى عظيم

نشر فى : الخميس 15 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 15 مارس 2012 - 8:00 ص

لم يؤخرنى عن الكتابة عن الراحل العظيم «ثروت عكاشة» إلا مشقة أن تكتب عن رجل بهامته فى سطور قليلة تريد أن توضح فيها دوره ومكانته فى واحدة من أخصب مراحل التحول فى مصر المعاصرة. ذاع صيت صاحبنا بإنجازاته الثقافية عندما ولى أمر وزارة الثقافة مرتين، الأولى من أكتوبر 1958 إلى سبتمبر 1962 والثانية من سبتمبر 1966 إلى نوفمبر 1970، لكن الكثيرين وبالذات من الأجيال الجديدة قد يجهلون دوره فى خدمة قضايا الأمن القومى والسياسة فى مصر، وهو مدخلى إلى شخصه فى هذا المقال، لأن ما كتب عن دوره الثقافى قبل وفاته وبعدها كفيل بأن ينصفه.

 

●●●

 

تطلع صاحبنا فى شبابه ــ رغم ولعه بالفنون والآداب ــ إلى الالتحاق بالكلية الحربية التى شاء القدر أن تكون مدخله إلى دور بارز فى وطنه منذ قيام ثورة 1952 وحتى وفاة عبدالناصر فى 1970. أراد له والده أن يلتحق بكلية الحقوق، لكن نفسه لم تطب لدراستها بعد ستة شهور قضاها فيها، فالتحق بالكلية الحربية دون علم والده ربما تأثرا بالخلفية العسكرية لأسرته أبا عن جد. تخرج صاحبنا فى 1939 بترتيب متقدم سمح له باختيار السلاح الذى سيلتحق به، وكان سلاح الفرسان هو الأكثر جذبا، لكنه اختار أن ينضم إلى كتيبة «مدافع الماكينة» المكلفة بالدفاع عن مرسى مطروح فى ظروف الحرب العالمية الثانية، ولا تكاد تمضى سنوات على اكتمال مهمته هناك حتى يشارك فى حرب فلسطين، ويكتب فى مذكراته واحدا من أعمق التحليلات دفاعا عن الشعب الفلسطينى وأداء الجيش المصرى فى الحرب، وعن أسباب نكبة 1948.

 

ينضم صاحبنا فور عودته من حرب فلسطين إلى تنظيم الضباط الأحرار الذى جمعته صداقة عميقة ومتينة مع أبرز شخصيتين فيه وهما عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، ويقوم بدوره كاملا غير منقوص ليلة الثورة، ويعود من فوره بعد ذلك إلى سلاح الفرسان بعد أن رفض عرض عبدالناصر أن ينضم إلى مجلس قيادة الثورة ممثلا لهذا السلاح، وكان مبعث رفضه أن حسين الشافعى أقدم منه، وهو ما طابت له نفس عبدالناصر لأنه رفع عنه حرج الاختيار بينهما، ثم يكلف عبدالناصر صاحبنا ــ بالإضافة لعمله فى سلاح الفرسان ــ برئاسة تحرير مجلة «التحرير» الناطقة باسم الثورة عقب صدور ثلاثة أعداد منها بعد أن رأى مجلس القيادة أنها أصبحت «نشرة حمراء»، ويخوض صاحبنا واحدة من أثرى تجاربه وأكثرها اصطداما بظاهرة مراكز القوى عندما لا يجد مفرا من الاستقالة بعد أن أعلن وزير الثقافة والإرشاد أن المجلة لم تعد تعبر عن القوات المسلحة أو مجلس قيادة الثورة، وذلك بعد أن كتب صاحبنا مقالا فى المجلة لم يرق للبعض بعنوان «هكذا قمنا بالثورة».

 

يُكلَف د.عكاشة فى خريف 1953 بالعمل ملحقا عسكريا فى برن، فيؤدى عمله الجديد بالجدية نفسها، وينجح فى إبرام صفقة مع إحدى شركات السلاح السويسرية لشراء أجهزة كانت قوات الدفاع الجوى فى مسيس الحاجة إليها على الرغم من حظر الحكومة السويسرية تصدير هذه الأجهزة إلى بلدان الشرق الأوسط، ويكون الطريف والمثير فى آن واحد أن ثقافة صاحبنا وقفت خلف نجاح الصفقة حين هتف باسم مقطوعة موسيقية مشهورة كانت تعزف بين جنبات المطعم الذى كان يتناول فيه عشاءه مع مدير الشركة المنتجة للأجهزة فيدخلان فى حوار ثقافى ممتد ينتهى بأن يهديه صاحبنا تسجيلا موسيقيا نادرا، ويوافق المدير على بيع الأجهزة لمصر شريطة أن تتولى السفارة المصرية إرسالها لمصر بالحقيبة الدبلوماسية، ولعل النجاح اللافت لصاحبنا فى برن كان وراء نقله إلى باريس فى 1954 لوجود مهام خاصة بالقوات المسلحة تقتضى وجوده هناك، فيقبل على مهمته الجديدة بحماسة كعادته، ولا يكتفى منها بالشق العسكرى، وإنما يضيف إليه أعمق التحليلات وأكثرها خصبا عن السياسة الفرنسية تجاه مصر والمغرب العربى، والصراعات الدائرة فى إطار هذه السياسة، ويتابع تطور القوة العسكرية الإسرائيلية من خلال تعاونها مع باريس، ويحاول أن يجد حلا لمشكلة التوجيه فى صناعة الصواريخ المصرية، وبسبب إخلاصه فى العمل وشبكة علاقاته الواسعة تنقل له شخصية فرنسية نافذة لم يذكر اسمها أبدا التفاصيل الدقيقة عن خطة العدوان الثلاثى على مصر قبل بدء تنفيذه بأربعة أيام، فيستعين صاحبنا بالمرحوم عبدالرحمن صادق الملحق الصحفى بالسفارة فى ذلك الوقت، ويقوم «بتحفيظه» الخطة عدة مرات حتى يتجنب مخاطر اكتشافها مكتوبة، ويصل صادق إلى مصر ليقابل عبدالناصر ويطلعه على رسالة صاحبنا قبل العدوان بيومين، غير أن عبدالناصر لا يبدو مصدقا لها على أساس أنه لم يكن يتصور أن يصل التدنى الأخلاقى بقوى كانت إلى وقت قريب عظمى إلى هذا الحد، لكنه ظل يعترف لصاحبنا لاحقا بهذا الفضل.

 

يعود د.عكاشة إلى القاهرة بعد العدوان الثلاثى وإغلاق السفارة المصرية فى باريس، ويُعيَن بعد ذلك مستشارا برئاسة الجمهورية فى أكتوبر 1957، لكنه يرفض لمعرفته بأن المجموعة الموجودة فى الرئاسة لا تستريح إليه، ثم يُعيَن فى الشهر نفسه سفيرا فى إيطاليا حتى أكتوبر 1958 ليقوم بالدور الناجح نفسه الذى قام به فى كل من برن وباريس، ويكتب تحليلات دقيقة للتفاعلات السياسية الإيطالية الداخلية وانعكاساتها على سياسة إيطاليا تجاه المنطقة ومصر، ويلعب دورا لافتا فى التقريب بين البلدين فى ظروف عصيبة وهو ما توج بزيارة رئيس الوزراء الإيطالى فانفانى لمصر، بل ويلعب دورا فى تحسين العلاقات المصرية ــ البريطانية إلى أن يفاجأ بنبأ تعيينه وزيرا للثقافة فى أكتوبر1958، ويحاور عبدالناصر أربع ساعات متصلة حول قبوله المنصب، ويطلب مهلة يومين يرد بعدهما بأن نفسه لم تسترح بعد لقبوله، فيقول له عبدالناصر ضاحكا «هيا إلى مكتبك على بركة الله».

 

كانت وزارة الثقافة هى الموقع الذى وجد فيه صاحبنا نفسه فقام بما هو معروف وغير منكور من دور فى وضع البنية الأساسية لثقافة مصر المعاصرة، فكأنى به «محمد على» الثقافة المصرية المعاصرة، ومع ذلك لم يسلم من مكائد الكائدين، وعندما بدا أن ثمة فجوة فى الرؤية بينه وبين عبدالناصر بخصوص تدخل وزارة الإعلام فى عمل وزارة الثقافة وسياسة الكم التى تتبعها الأولى كان منطقيا أن تنتهى ولايته الأولى فى سبتمبر 1962، ثم يعود صاحبنا إلى الوزارة مرة ثانية فى سبتمبر 1966 وحتى وفاة عبدالناصر بعد أن اقتنع الأخير بخطأ سياسة تغليب الكم على الكيف.

 

●●●

 

كان للدكتور عكاشة رأى متبلور فى نظام الثورة، فقد نعى عليه مركزيته وظاهرة مراكز القوى التى لازمته فى محاولة للاستئثار بالسلطة وعزل عبدالناصر عن جماهيره وعن كل صاحب رأى، وقد عانى هو شخصيا منها مرات عديدة، وعلى الرغم من هذا كله كان تقييمه لعبدالناصر بالغ الإيجابية، فيكتب عنه قائلا: «كان جمال هو الداعى الأول لهذا التنظيم (الضباط الأحرار)، ومن ثم فقد أسلمنا له القياد، فما شهدنا عليه إلا نزاهة مسرفة فيما يفعل ويأتى، وتضحية من أجل الغير، وإنسانية فياضة... وبذلا لجهده وماله ووقته فى سبيل قضية مصر...فضلا عن حنكته السياسية ودرايته العسكرية»، ثم يكتب فى تقييم عام للرجل: «لقد كان عبدالناصر بحق القوة الدافعة الطاهرة وراء ما نالته مصر الحديثة من وزن عالمى كبير، وما حدث فيها من تطور اقتصادى واجتماعى لا سبيل إلى إنكاره»، وحتى بعد نكسة 1967 يشيد صاحبنا بعبدالناصر لإقراره فى شجاعة المحارب بأنه المسئول دون أن يلقى التبعة على غيره، «وكأنى به شخصية من شخصيات التراجيديا الإغريقية شقيت ــ كما يقول أرسطو ــ حين وقعت فى زلة جاءت عن خطأ فى التقدير».

 

أما السادات فلم يشر إليه إلا فى واقعة تغيبه ليلة الثورة عن الوفاء بمهامه، ومطالبة عبدالناصر له بالبقاء فى بيته لأمر لم يعلمه صاحبنا قبل وفاة عبدالناصر بقليل، وواقعة مطالبته بتخصيص قصر محمد محمود خليل لمكاتب الرئاسة، وقد دفع صاحبنا ثمن رفضه هذا الطلب بالخروج من الوزارة بعد أيام، ومنعه من السفر لحضور حفل تكريم فى بريطانيا بدعوى الاحتياج إليه فى تحقيق عاجل، وهو إجمالا يسجل تردى نظام السادات على مقياس الديمقراطية بشكل لافت.

 

رحل د.عكاشة بعد عطاء غير مسبوق لوطنه فى مجالى السياسة والثقافة معا، وترك لنا غير ذلك مجموعة من الكتب والموسوعات التى ألفها والأعمال التى ترجمها ما يجعل المرء يعجَبُ لدأبه وعشقه للفن والثقافة، ولعل الأجيال الجديدة تتوفر لها فرصة الإطلاع على مذكراته لتعلم الكثير عن الوفاء للوطن والتفانى فى الإخلاص له.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية