قُل للزمان - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قُل للزمان

نشر فى : الجمعة 14 أبريل 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الجمعة 14 أبريل 2017 - 9:55 م

غنت أم كلثوم «عايزنا نرجع زى زمان، قل للزمان ارجع يا زمان» ومنذ ذاك الحين صارت عبارتها مِن لزوميات الترحُّم على الماضى والتأكيد على استحالة عودته. يقال إن ما مرّ وانتهى لا يمكن أن يعود مرة أخرى، مع ذلك لا يفتأ السؤال يتجدد مرة بعد مرة ولا ننفك نكرر المقولة الشهيرة: التاريخ يعيد نفسه. نشير بها فى وضوح وملل إلى إمكانية تكرار الأحداث والوقائع وعادة ما نقصد بها تلك التى أثرت فى حيواتنا، ولا نهتم كثيرًا بتفاصيل صغيرة تتسلل إلينا مِن القديم رغم ما قد تهدينا من بهجة وربما من حسرة أيضًا.
***
ثمة أشياء كثيرة حازت الأضواء فى زمنها حتى صارت علامة من علاماته ثم إذا بها تتراجع وينحسر عنها الاهتمام، أشياء ليست شديدة الأهمية ولا الجدية، لكن استحضارها بعد عقود طوال يلفت النظر ويجدد العبق القديم ويُذكر الناس بما كان ولو فى أبسط المظاهر واللمحات. طيفٌ متنوع مما تجاوز الزمن جرى استدعاؤه على مرّ السنوات؛ حذف منه أو أضيف إليه. طيف واسع مِن أشياء لا يجمع بينها رابط إلا كونها قديمة، وكونها برزت وتألقت ثم خبا بريقها، ذهبت وجاءت بدلا منها أخرى. بعض الأزياء التى مثلت أحدث الصيحات فى القرن العشرين عادت إلى الظهور فى القرن التالى، هناك مثلا الشارلستون؛ ذاك البنطال ذو الأقدام الواسعة، ومثله تصفيفات شعر عتيقة من قبيل السوالف الظاهرة وإطالة الشعر على هيئة القنفذ للرجال والخصلات المرفوعة المتكومة فوق الرأس للنساء، ومثل هذا وذاك عادت إلى قوائم الزينة وصيحات الجمال، أشكالٌ متنوعة مِن الحليّ، كانت مُهمَلة ينظر إليها من علٍ ثم إذا بها تعود متربعة على العرش.
بعض العلاجات التى عُدَّت مِن ميراث الجهل وُجِدَ حديثًا أن لها فوائدَ علمية حقيقية ورجع العلماء إلى الحديث عنها وإجراء الاختبارات عليها لاكتشاف سرها، ولا يخفى أن كثيرهم ينقب فى تاريخ قديم وينتهى به الأمر أحيانًا إلى الترحيب باستعادة عادات شعبية جار عليها الزمن والترويج لممارستها، يحدث هذا بعد اكتشاف فلسفة إيجابية كامنة وراءها أو بعد ظهور سبب علميّ يبرر العودة إليها. أكثر النماذج دلالة هنا مسألة التداوى بأعشاب ووصفات بعيدة عن العلاجات الكيميائية، والعمل بإرشادات ثمينة حول ما يُفضَّل جمعه على مائدة الطعام وما لا يفضل تناوله فى وجبة واحدة. بعض العادات والنصائح اخترعته أمهات أعجزهن بكاء الأطفال وعلمتهن الخبرة ما يخفف من أوجاع البطن ومشاكل الهضم والنوم وغيرها. مثل هذه الأمور التى تصورنا انقراضها أو على الأقل سجنها فى صفحة من صفحات التاريخ، تعود وقد أصبحنا أكثر فهمًا لحقيقتها، وأكثر إدراكًا لفائدتها.
***
أساليب التعليم التى سادت فى قرون سابقة، تعود هى الأخرى إلى المشهد وتحتل بؤرة الاهتمام بل وتُقَدَّم أحيانًا على أنها الحل المثالى لمشكلات مُستعصِية. لا أنسى مذيعًا راح يتحدث فى أحد البرامج الحوارية عن أزمة التعليم، مؤكدًا أن مصر بخير، مُدلِّلا على طيب الحال بمعلومات جمعها حول عودة الناس إلى قديمهم، عملا بالمثل الشعبى «من فات قديمه تاه»، وإحياؤهم نظام الكتاتيب ومِن ثمّ قيادتهم لعملية تعليم موازية من البيوت، مثلما فعل أجدادهم فى أزمنة وَّلت.
أَستعيد السؤال من جديد؛ أَ صحيح أن عجلة الزمن لا تعود أبدًا إلى الوراء؛ لا ظاهرًا ولا مضمونًا؟ الرأى عند بعض المفكرين أن إعادة التاريخ قد تحدث فى شكل هزليّ ساخر، لا يحمل قوة الماضى وعنفوانه، إنما تصبغه مرونة الحاضر وتظلله ألاعيب الزمن وتصرفاته. أتفق مع الرأى وأظن أن ما بين الفرضيتين؛ عودة الماضى بحذافيره واستحالة التكرار، مساحة تستوعب المُستنسخات الجديدة وإن لاحت باهتة، وإن افتقدت مقومات وعناصر الجديد الطازج؛ التكرار ممكن لكنه لا يماثل الأصل أبدًا.
***
على خلفية ما يجرى اليوم من أحداث تبدو شبيهة بما قبلها وربما بما بعدها، ألح علىّ السؤال: أحيانًا ما نلوذ بالماضى؛ بعيدًا كان أو قريبًا، نبحث فيه عن حل لمشكلة نعجز عن التعامل معها، ونستلهم تجربة نجحت علها تصلح لزمننا، ذاك أمر مقبول لا عيب فيه إلا إبراز خيبتنا الراهنة ونكوصنا عن ابتكار الجديد، أما أن نستعيد حلولا أثبتت فشلا تلو فشل وسقوطًا تلو سقوط ونسعى إلى تطبيقها فأمر غير مفهوم، والسؤال فى كلمة واحدة: لماذا؟ أما أقرب مثال فهو فرض حال الطوارئ فى ربوع البلاد ولم تمر بضع سنوات على رفعها.
عانينا فى ظل حال الطوارئ وقانونها من حوادث عنف متتالية فلا تغلبت الأجهزة الأمنية على مرتكبيها ولا منعتها. لا أفهم الحماسة التى اكتنفت المسئولين تجاه إعلانها بينما القاصى والدانى يدرك أنها ليست حلا، وأن أشباح الماضى تؤكد كونها مجرد غطاء لعمليات قمع وانتهاكات للحريات، وإخضاع وقهر للناس.
***
على كل حال، ليس التاريخ بأفراحه وأتراحه كلها قابلا للاستعادة، ولا تسفر محاولات الاستنساخ فى عديد الأحيان إلا عن مزيد من التشوهات.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات