فى تسعينيات القرن الماضى، صدرت لسنوات عدة مجلة بالإنجليزية اسمها Cairo Times، وكان فيها باب ثابت عما يدور من أحداث ثفاقية بالقاهرة وما يوجد فيها من أماكن للنزهة والترفيه، وكيف وُصفت القاهرة هنا بالـThe Big Mango، أى ثمرة المانجو الكبيرة، فى استلهام واضح لوصف مدينة نيويورك الشائع The Big Apple، التفاحة الكبيرة، والمانجو قطعا ألذ من التفاح بما لا يقاس!
هناك التجربة النادرة أو الأولى وما تخبرك. فى إنجلترا، قبل 25 عاما، أتتنى من مصر مع زيارة من العائلة. رائحتها عبأت غرفتى قبل أن أدعو زملاء الدراسة ليتعرّفوا عليها. أول من بدأ الالتهام كان صديقا أيرلنديا، وكان هذا لقاءه الأول بها، إذ لم يكن قد أكل ثمرة مانجو قبل ذلك فى حياته، ناهيك بحبة من صنف التيمور الفاخر.
مع كل مرة كان يغرز أسنانه فيها كان يردد بتلذذ this is one hell of a fruit، ثم فى المرة التالية this is an amazing fruit («أى فاكهة هذه»، «هذه فاكهة رائعة»)، قبل أن يحاول أكل القشرة.
تلته صديقتان، فلبينية وأمريكية، ابنة الأرخبيل الآسيوى لم تكن غريبة عن المانجو، وإن أثنت على امتياز ما أكلت، أما زميلتنا الأمريكية ابنة مدينة بوسطن، فمثل الأيرلندى كانت هذه تجربة جديدة لها (لاحقا علمت أن المانجو يُزرع جنوب الولايات المتحدة لكن ربما ليس بهذه الجودة).
كيف وصل المانجو إلى مصر؟
أصل المانجو آسيوى مدَارى، وتحديدا شمال شرقى القارة الهندية، وعمرها يقارب الخمسة آلاف عام. لكن مجيئها إلى أرض النيل فيه اختلاف. لا جدال أن مصر لم تعرف هذه الفاكهة قبل القرن التاسع عشر. ويُروى أنها دخلت البلاد على يد إبراهيم باشا ابن محمد على، الذى جلبها من موطنها، وفى رواية أخرى قيل إن من أتى بها الى مصر كان عرابى باشا الذى عرفها فى منفاه فى سيرلانكا وأحضرها معه حين عاد الى البلاد عام 1903.
لكن ربما تصحّ الروايتان (إن تغاضينا عن الدلالة السياسية)، فالمانجو شجرة كثيرة الأصناف، وربما أتت على مرحلتين. اليوم فى مصر، توجد منها عشرات الأنواع كما يعرف كل عاشق لها، ومع الوقت هجّن المصريون أنواعا خاصة بهم من هذه النبتة الآتية من بلادٍ بعيدة. وحتى تلك المستوردة الموجودة خارج مصر، كالألفونسو (الفونس كما تسمى فى مصر) فنسختها هنا، فى تربة مصر، أطيب من الهندية والباكستانية. ومما هجّن المصريون «العويس»، وهذه صفراء بيضاوية طيبة الرائحة وكأن فى طعمها خليطا من قليل من جوز الهند وكثير من الحلاوة. أيضا الفص عويس، وهذه نسخة صغيرة شديدة التركيز من العويس، ومن ثم هى أغلى أنواع المانجو سعرا فى مصر.
طبقات المانجو
المفضلة عندى فهى التيمور والفونس. الأولى مضبوطة الطعم بلا إفراط، كحلوى رائعة سكرها لا فائض ولا ناقص، أما الثانية فطيب رائحتها وحده حلوى وإن كان طعمها ينافس جمال رائحتها. والتيمور، كما ينم الاسم، هُجنت فى مزارع آل تيمور، العائلة الشهيرة التى أثرت الثقافة المصرية والعربية.
الأصناف الفاخرة التى ذكرنا للمائدة، لكنْ هناك أيضا أنواع مخصصة للعصير، أهم هذه وأشهرها «الزبدية»، وهذه ثمرة كبيرة نسبيا (نصف الكيلوجرام وزنا فى المتوسط)، والفارق الأول بين مانجو العصير ومانجو المائدة ما بالثمرة من ألياف وأيضا كمية خلاصتها السائلة. فالأنواع الأفخر والأفضل تكاد تذوبُ فى الفم، أما أصناف العصير، مهما كانت حلاوتها، فستنحشر بين أسنانك أنسجة منها.
لكن شجرة الزبدية محورية كما يعرف كل زارع للمانجو فى مصر. فهذا الصنف غزير الإنتاج عددا ووزنا، من ثم يضمن للمزارع مردودا جيدا، أما الأصناف الفاخرة فكثير منها إنتاجه محدودٌ وزناً.
شهد آكلو المانجو فى مصر دخول أصناف كثيرة جديدة فى العقدين الماضيين، ومعظمها من شجر أصغر حجما مما يسمح، بكثافة أكبر من المعتاد منها فى الزراعة، وهى تظهر فى الأسواق متأخرة عن الأصناف الأقدم. من أسماء هذه الأصناف الجديدة، التى تنم عن أصولها الأجنبية: الناعومى والكيت والكنت والتومى والهايدى، وهى جيدة عموما، لكنها لا تُقارن بما عرفته البلاد من أنواع فاخرة تظهر كل عام بين أواخر يونيو سبتمبر.
ولأن المانجو شجرة بطيئة النمو، وتستغرق أعواما لتصل الى إنتاج غزير، تبقى ثمرة غالية نسبيا فى مصر حتى بعد زراعة مئات الآلاف من الأفدنة منها. علما بأنها، كأنواع أخرى من الأشجار، «مُعاومة»، أى غزيرة الإنتاج عاما، شحيحة العام الذى يليه. أما التغير المناخى فى السنوات الأخيرة فكان له أثر سلبى. مثلا: قبل أربعة أعوام فقدت مصر معظم محصولها من هذه الثمرة الثمينة لاضطراب غير معتاد فى الفصول (شتاء دافئ للغاية تبعته موجة حرارة مبكرة ثم عودة للبرودة).
كل هذه العوامل وغيرها، مضاف إليها الارتفاع الهائل فى تكلفة المستلزمات الزراعية من سماد ومبيدات، تخبرنا أنه لتكون هذه الثمرة مربحة للمنتج فلا بد من ارتفاع سعرها بشدة، وإلا ضحّى المزارعون بها، لكن إن ارتفعت أسعارها لا تعود فى متناول مصريين كُثر ينتظرونها بشوق كل صيف.
مجاز المانجو
المانجو ليست فقط معشوقة الآكلين بل هى أيضا موضوع للتندر والسخرية. ثمرتنا هذه ينهمر منها عصيرها ما إن نشبت فيها أسنانك، وهى لذيذة إلى الحد الذى لا يترك منها ولا فيها شىء، فإن أُكل لحمها شرع المُلتهم بمص ما استطاع من فوق بذرتها، من ثم نكات و«ميمز» كثيرة عن الفوضى التى تحدثها كل «موقعة مانجوية».
هناك مادة كثيرة لطيفة، مثلاً، على اليوتيوب، لكن ربما أجملها لرضيع يصارع ثمرة مانجو تاركا أثر حربه الضروس على نفسه وعلى كرسيه وكل ما حوله، علما بأن طريقة أكل الكبار للمانجو ليست أفضل كثيرا عادة.
للمانجو فوائد جمة فهى غنية جدا بفيتامين ج (سى) وفيها أيضا نسبة لا بأس بها من فيتامين ب 6 ، لكنها أيضا، وهى الثمرة شديدة الحلاوة، تحوى نسبة عالية من السكر، نحو 14 فى المئة من وزنها فى المتوسط. لهذا حين زرت صديقا لى، طبيب متخصص فى التغذية، فى محاولة بائسة منى لفقدان الوزن، نصحنى بالتوقف عن أكل المانجو. كلامه علمى منطقى طبعا، لذلك كانت هذه نهاية صداقتنا.
يا سادة إن كان ثمن الوزن الزائد (ومشاكل أخرى) ثلاثة أشهر من لذة المانجو كل عام، فليكن إذاً! أى ضرر فى هذا المُخدر اللذيذ الحلال؟ رجاءً عزيزى الطبيب، كلنا فى حاجة إلى الغطس فى لذة المانجو، فقليل غيرها اليوم يمنحنا وهم السعادة.
سامر القرنشاوى
موقع درج
النص الأصلى
https://rb.gy/7d3h17