صحافة خلاقة لقارئ طال انتظاره - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 10:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صحافة خلاقة لقارئ طال انتظاره

نشر فى : الأحد 15 فبراير 2009 - 9:21 م | آخر تحديث : الثلاثاء 17 فبراير 2009 - 8:27 م

 في الصيف الماضي كان النقاش في الغرب حول مستقبل الصحيفة الورقية قد بلغ الذروة. كانت مبيعات الصحف في تدهور مستمر وصالات التحرير تفقد محررين بأعداد متزايدة والمكتبات تعرض عشرات الكتب يتنبأ أغلبها باقتراب نهاية عصر الصحف ، حتى أن أحد المؤلفين في كتابه المنشور تحت عنوان "الصحيفة نحو الاختفاء" حدد عام 2043 موعداً لموت الصحافة المطبوعة في الولايات المتحدة.

وإلى جانب نبوءة فيليب ماير ظهرت نبوءات متعددة ومعها أيضاً تفسيرات متعددة. ساد في كليات الإعلام والاتصال في جامعات الغرب ما يشبه الإجماع على أن نضوب الإعلانات سبب رئيسي في تدهور حال الصحف، وذهب آخرون إلى أن الأجيال الجديدة لا تقرأ، أو هاجرت إلى الشبكة الإلكترونية. وبقى من يقول أن صاحبة الجلالة فقدت جزءاً كبيراً من نفوذها حين انتقلت ملكية صحف كبرى عديدة إلى مؤسسات أقل ثراء مالياً، و منذ أن زادت إلى حد رهيب سلطة الحكومات ورقابتها، وفي الحالتين كانت النتيجة صحافة أليفة ومطيعة وهى في الغالب صحافة لا تبيع، ولا شك أن ما أطلق عليه خلال العام الماضي فضيحة نيويورك تايمز يندرج وإن بنسب متفاوتة تحت هاتين الحالتين.

وإلى جانب تراجع عائد الإعلان وهجرة قراء الصحف الورقية إلى الشبكة الإلكترونية وعزوف الأجيال الجديدة عن القراءة كانت جماعة المدونين تقتحم و بقوة مفاجئة ساحة الإعلام. وصفهم البعض بأنهم "صحافيون من الشارع" جاءوا فهزوا أعمدة الصحافة التقليدية، وفرضوا على النقاش الدائر السؤال القديم - الجديد، ما هي الصحافة وما فائدة الصحفيين؟ ، خاصة بعد أن أصبح في إمكان أي إنسان أن يكون مخبراً ومحرراً وناشراً في آن واحد، وفوق هذا كله متحرراً إلى حد كبير من الرقابة وتبعات الزمالة والمهنة وغيرها من قيود الاحتراف، وكلها قيود تتحكم في حركة الصحفي المحترف وحريته.

فريق آخر في بلاد كالهند وباكستان والصين ومصر وفي أمريكا الجنوبية اختار أن يقبل التحدي ويشارك في إصدار صحف جديدة في ظروف غير عادية. عرف هذا الفريق، كله أو بعضه، أن الصحف في أغلب دول العالم محل اتهام بأنها، مع بقية أجهزة الإعلام، فقدت ثقة القارئ، بسبب الميل المتزايد للتعرض بالسوء إلى شخصيات معروفة. وفي حالات كثيرة تجاوزت صحف وفضائيات وإذاعات حدوداً أخلاقية متعارف عليها، وفي هذا تقول أونورا أونيل أستاذة الفلسفة في إحدى محاضراتها ضمن سلسلة محاضرة ريث Reith الشهيرة في الإذاعة البريطانية، أن غياب المحاسبة جعل بعض الصحف تبدو كوحوش كاسرة. هذه الوحوش ربما أشبعت بما تكتبه فضول بعض الناس وحاجتهم إلى الاستثارة وبينما هي تفعل هذا بدافع أو آخر كانت تفقد ثقتهم فيها. ولا يعني هذا ضرورة خضوع الصحافة لقيود وقوانين وأجهزة أمن ورقابة فالصحافة في الأصل وبحكم التعريف، وستبقى لحسن الحظ، متمردة على النظام. وتؤكد السوابق أن الصحافة تفقد روحها ووظيفتها إذا خضعت لنظام وتدقيق وتفتيش أو إذا اعتبرت نفسها واعتبرها الآخرون مهنة كبقية المهن. بمعنى آخر، لا وسيلة لاستعادة ثقة القراء أحسن وأجدى من الجهد الدءوب من جانب الصحفيين جماعة وأفراداً لتحقيق استقلالهم ثم تأكيده من ناحية والتمسك بقيم المهنة وبخاصة الصدق وتوخي أقصى قدر من الموضوعية من ناحية أخرى.

أدرك الفريق أيضاً، أو أفراد فيه، أن بعض أسباب معاناتهم يختلف بسبب هذه الظروف عن معاناتهم في الماضي. كانوا يعانون كغيرهم في كل البلاد شرقاً وغرباً من ندرة المعلومات، وهم يعانون الآن من وفرتها، وكصحافيين مصريين سيستمرون في معاناة ندرة من نوع آخر، حيث تمر مصر بمرحلة تباطأت فيها جهود صنع الأخبار، وأصبح واجباً على هذا الفريق و فرق أخرى في الصحافة المصرية تطوير الأساليب لإنتاج أفكار وأخبار وتحليلها والتعليق عليها .

أدركنا أيضاً في الشروق ، ومنذ البداية أن هناك مبالغة، أو ربما فهم خاطئ في تصوير العلاقة بين الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية والإعلام المرئي. وأدركنا أنه لا خوف على صحيفتنا من التقدم الحاصل في الصحافة غير الورقية، بل إننا على العكس نأمل في أن يستمر تقدمها، ففي تقدمها تقدم للصحافة الورقية. الصحافة هي الصحافة، وإن تعددت التجارب وتباينت. وبدون الصحافيين الذين قامت على أكتافهم وسائط الإعلام الأخرى، لما نجحت هذه الوسائط ابتداء من الإذاعة وانتهاء ببرامج "الكلام "والحوار في الفضائيات وغيرها.

وقد ازدادت ثقتي بمستقبل الصحافة الورقية وإمكانات تطويرها وتأقلمها مع عصر الشاشة الإلكترونية بعد إطلاعي على موسوعة روبرت فوكس التي نشرتها في أربعة مجلدات رابطة Folio الشهيرة. يقدم فوكس الموسوعة باعتبارها شهادة موثقة لتاريخ الصحافة بدءاً من أوراق كتبها هيرودوت وانتهاء بمقال كتبه صحافي يشكو من تأثير المحمول على عقله وذكائه وأدائه الصحفي. و في تصوري أنها ستثير في نفوس كل قرائها ما أثارته في نفسي من إعجاب. يكفي أنها حين أعادت نشر تقارير وشهادات صحفية كتبها صحافيون في عصر أو آخر تبث الإحساس بأن بعض ما نكتب سيبقى حيا عندما تنقطع الصلة بين الكلمات وقراء اللحظة. تخيلت قارئ الكلمات في زمن الكتابة في غرفته وعلى فراشه أو مقعده وتخيلت ملمس الصفحة التي يقرأ منها ورائحة الحبر المطبوعة به الكلمات وحفيف الورق بين أصابعه وهو يقلب الصفحات صفحة وراء أخرى .. لاشيء يعادل متعة قراءة التقرير الذي غطى عملية اغتيال قيصر روسيا الكسندر الثاني، وتقارير روبرت فيسك من مخيم شاتيلا، وتقرير جون سيمبسون من ميدان السلام الأبدي في بكين، و أخص بالذكر تقارير محمد حسنين هيكل عن رحلته في آسيا التي كان لها دور كبير في اقترابي من هذه المهنة و من أعلامها الكبار والإطلاع على بعض أسرارها وفنونها. كنت معه في هذه الرحلة، ومعنا محمد سيد أحمد حمدي فؤاد وسميح صادق وآخرون. لم نفترق خلال الرحلة إلا نادراً، شاهدنا ما شاهده وسمعنا ما سمعه وعدنا لنكتب ونكتشف من تقاريره ومقالاته التي كتبها أنه كان يشاهد أكثر مما شاهدنا ويرى ما لم نره ويلاحظ ما لم نلاحظه ويقرأ فيما سمعه أكثر مما كنا نقرأ فيه.

بالشروق ندخل تجربة خاضتها صحف أخرى من قبلها. ندخلها واثقين من النجاح ومدركين ضرورة تقديم منتج جديد وصحافة متميزة، ورقية وإلكترونية معاً، ومتعاونين إلى أقصى الحدود مع المدونين، هؤلاء الصحافيون الجدد المتحررين من قيود المكان والزمان. لن نتوقف عن تطوير أساليب تقديم الخبر والقصة، لتواكب التغيير في التكنولوجيا وعادات القراء. نسعى لقارئ متفاعل معنا بالاتفاق أو الاختلاف ومشاركاً بالصوت أو القلم ومساهماً بالخبر والقصة والرأي. لن نتوسل إليه ليرضي عما ننشره، ولن نتسول الإعجاب بما نسطره، إنما نسعى إلى علاقة تقوم على الصدق ممزوجاً بالحب والتعاطف. القارئ سبب وجودنا، ومن أجله، ومعه، سوف نضيف إلى صحافة خلاقة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي