زرت فينسيا قبل سبع سنوات بصحبة مجموعة من الأصدقاء، كان من بينهم الشاعران أحمد يمانى وعماد فؤاد والقاص منتصر القفاش والمترجم طلعت شاهين والروائى الأردنى المرحوم إلياس فركوح والناقد خيري دومة وكانت لدينا دعوة لتناول الغذاء فى مطعم يملكه الأستاذ حنا الذى يعرفه كل مصرى مر من هناك.
وعقب تناول الطعام والذى منه، سأل الرجل الطيب عن مهنتنا وسبب الزيارة، فأخبرته أن كل هؤلاء من الأدباء؛ فقال لى أن آخر كتاب قرأه فى مصر قبل أن يغادرها من أربعين عاما كان كتاب (طعم القرنفل) من تأليف جار النبى الحلو.
كانت المفاجأة حلوة ومذهلة لنا جميعا، اتصلت ساعتها بالأستاذ جار، وأبلغته بالحكاية، وفرح كثيرا بالمكالمة، وبالقارئ الذى أحب قصصه وتعلق بها.
لا يبدو جار النبى الحلو معروفا للكثير من القراء فى مصر وخارجها، لسبب يعود إلى قرار اتخذه قبل نصف قرن بالبقاء فى المحلة وعدم مغادرتها أبدا، بخلاف آخرين من الموهوبين الكبار الذين بدأوا معه ثم غادروا المحلة وما حولها استجابة لغواية العاصمة.
يعرف المشتغلون بالأدب فى مصر ما كان لـ(شلة المحلة) من نفوذ ورأسمال رمزى شمل الكثير من أفرادها، إلا أن جار النبى الحلو بقى فى حاله، واكتسب مكانته من المحبة ولا شىء سواها.
يستقبلك دائما بفرحة الأب، وبابتسامة استمدها من اسمه النادر والجميل فهو (جار النبى) وحلو وما أجمل اسمه، الذى يحيل بخلاف الإيمان وعمق الصلة بـ(النبى) إلى جار تنتظر أن يسكن إلى جوارك لتهدأ وتطمئن.
ورغم تبدل الأحوال والأزمان تمسك (جار) بسلامه النفسى وتحصن بموهبته للدرجة التى جعلته عازفا عن أشياء كثيرة يستحقها لكنها تقع خارج حدود الكتابة وعالمها.
لا أعرف إن كان جار قد نال جائزة الدولة التقديرية للآداب أم لا، لكن ما أعلمه جيدا أنه يستحقها عن جدارة. ويكفى القارئ أن يطالع روايته الجديدة (شجو الهديل) التى صدرت مؤخرا عن دار العين للنشر، فهى تمثل المثال الأجمل للروايات القصيرة المكثفة المصاغة بعناية فائقة.
كما تقدم الرواية عالما فريدا لا يخرج عن فضاء المدن الصغيرة التى أجاد جار التعبير عن همومها بتفرد بالغ.
أما الكتابة فهى تشبه نسمة هواء عطرة تفرض حضورها على مزاج القارئ وتهبه الكثير من لحظات الشجن، والأسى التى تقوده إلى التفكير فى المصير الإنسانى.
وما أجمل عنوانها الذى يحيل إلى معنى الشجو الذى يماثل فى ثقافتنا الغناء الحزين، رغم أن المعنى القاموسى يربط الشجو دائما بـ(الحاجة)، وهكذا يظن القارئ أن بطل الرواية فتحى أسير حاجاته لأنه وفد من الريف للسكن فى منور إحدى العمارات السكنية لكن ما تبرزه الرواية يعزز التخلى والاستغناء.
يتمكن (فتحى) من التقاط أصوات سكان الأدوار الخمسة والتعرف على عوالمهم المختلفة، وهمومهم وكذلك أشكال الفرح والمسرات القليلة التى تغمرهم ويشاطرهم فيها.
لا يملك فتحى أى شىء، سوى اسمه الذى يماثل اسم أحد السكان، الذى انزعج من وجود سمية فى المنور لكنه سرعان ما تآلف مع وجوده واطمأن له، شأن بقية سكان العمارة الذين منحوا الوافد الدفء الذى كان بحاجة إليه.
وعلى الرغم من قصر حجم الرواية إلا أن كاتبها القدير تمكن من تحقيق أكثر من غرض، فقد جرب أكثر من تكنيك للسرد وانتقل بين أصوات متعددة واستعرض أنماطا كثيرة من البشر، مستعملا الراوى العليم، لكنه تخطاها عبر صور كسر الإيهام التى مارسها بمهارة دون إفراط يخل بعذوبة النص وقانون الشجو الذى أراده.
ومن جهة أخرى اختبر قدرته على كتابة نص يتعلق بسكان بناية واحدة دون أن يتورط فى محاكاة نماذج ناجحة يعرفها القارئ كتلك التى أوجدتها «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسوانى أو «الناس اللى فوق» للكاتب الراحل نعمان عاشور.
وما أجمله وهو يوجه تحية لنجيب محفوظ من خلال نموذج الابن (عماد) الرومانسي المتعاطف مع الفقراء فهو يجعل من والده قرينا لـ(سعيد مهران) بطل اللص والكلاب فى صيغة من صيغ التفاعل مع النصوص الأدبية الراسخة بأسئلتها العابرة للأجيال.
فى روايته الممتعة حقا، لا يعزز جار النبى الحلو أية صورة تبتذل معنى الفقر أو حتى تندد بالاحتياج، لكنه يستطيع أن يشعرك بالندوب التى تثقل أرواح الفقراء، كما يصنع لك أجنحة لتطير معهم فى لحظات الفرح القليلة التى تعينهم على تحمل الشقاء، ومنها المشاهد العذبة التى صور فيها مجىء اعتماد بائعة الجبن إلى غرفة (فتحى) وهى القادمة من قرية احترقت بأكملها، لكنها غيرت طعم الدنيا كلها بعد أن جاءت إليه بجوزين من الحمام طلبهما ليؤنس وحدته فى البدروم ومع قدومها يتحول الهديل إلى تسبيح ويتطور إلى مغازلة أو ونس.
حشد جار داخل البناية العديد من النماذج الإنسانية التى فتح صناديق أسرارها فى الشرفات التى تطل على المنور نتيجة ضعف شبكات الاتصال لكنه أتاح شكلا من التواصل الإنسانى الدافئ والمفتقد.
لأن ما يرغب فيه يتعلق بإظهار الضعف الإنسانى وإضاءة أرواح أبطاله رغم ما يعانونه من بؤس وشقاء.