«نجيب محفوظ بختم النسر».. الأستاذ موظفًا! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 12:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«نجيب محفوظ بختم النسر».. الأستاذ موظفًا!

نشر فى : الخميس 16 مايو 2019 - 10:00 م | آخر تحديث : الخميس 16 مايو 2019 - 10:00 م

هذا الكتابُ، الصادرُ عن مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، فى دورته الحادية والعشرين، أضعُه، بكلِ ثقة، ضمنَ أفضل كتب 2019، وهو يُشكِل إضافة جيدة لكل ما كتب عن نجيب محفوظ، مع أن ما كُتب ضخم وكثير ومتنوع، ولكن ما زال فى حياة الأستاذ ما يستحق القراءة والتعليق، سواء ارتباطا بأدبه العظيم، أو بشخصيته، التى لا تقل عظمة وتفردا.

الكتاب بعنوان «نجيب محفوظ بختم النسر» لطارق الطاهر، المحرر الثقافى ورئيس تحرير (أخبار الأدب)، والذى يقدِم فيه قراءة ممتازة للملف الوظيفى الكامل لنجيب محفوظ، الذى أمضى 37 عاما من حياته موظفا حكوميا، من العام 1934 إلى العام 1971: بدأ كاتبا فى إدارة المستخدمين فى جامعة القاهرة، وانتهى مستشارا لوزير الثقافة بدرجة نائب وزير، كان أعلى مرتب حصل عليه فى حياته الوظيفية 100 جنيه شهريا، أما معاشه فكان 160 جنيها فقط.

لأول مرة أشعر بامتنانٍ عميق للبيروقراطية المصرية، صحيح أنها لم تفكر سوى فى استيفاءِ بيانات أحد موظفيها العموميين، ولكنها احتفظت لنا بصورة واضحة عن حضرة المحترم الموظف محفوظ، ثم جاءت دراسة طارق الطاهر الواعية، لتقرأ من خلال الشهادات، والتقارير، وأوراق العلاوات، والمرتبات، والترقيات، وطلبات الإجازات، حياةَ محفوظ بأكملها، بل وأن تستنتج منها الكثيرَ من الدلالات.

تفرُد الكتاب ليس فى نشر مسيرة محفوظ الوظيفية موثقة لأول مرة، فحسب، ولكنه بالأساس فى منهج نسج العام بالخاص بالأدبى فى قماشةٍ واحدة متماسكة، فمنذ وقتٍ مبكر أدرك محفوظ أنه يريد أن يكون أديبا، وأدرك فى الوقت نفسه أنه لن يستطيع أن يرتزق من الأدب وحده، لذلك كان تمسكه بالوظيفة هو حل هذه المعادلة، ولعله وجد أيضا أن الوظيفة تتسق تماما مع شخصيته المرتبة والجادة.

ورغم أن الوظائف التى شغلها، قد التهمت نصفَ وقته، إلا أنها وفرت له استقرارا ماليا (مرتبه مثلا عند تعيينه فى وزارة الأوقاف عام 1939 كان 12 جنيها، وهو رقم معتبر بمعايير تلك السنوات)، كما أتاح له عمله فى مكتبة الغورى، أن يقرأ عيون الروايات العالمية؛ مثل «البحث عن الزمن المفقود»، ومن خلال الوظيفة استلهم شخصياتٍ روائية شهيرة؛ مثل أحمد عاكف، الذى كان زميلا له يحمل نفس الاسم فى إدارة الجامعة، ومثل عدد كبير من شخصيات «المرايا» القادمين من عمله لمدة 17 عاما فى وزارة الأوقاف، كما استفاد كثيرا من عمله فى إدارة القرض الحسن بالوزارة، فقد كان يتعامل مع سيدات من بيئات شعبية، جئن لرهن مصاغهن للحصول على القروض، ولكل امرأة حكاية ورواية.

ملف محفوظ الوظيفى فى 300 ورقة، ولكن المؤلف انتقى منها ما يرسم صورة دالة متماسكة، وهكذا تحولت الأوراق العتيقة المرصعة بخط محفوظ الجميل، إلى حياة كاملة، تتقاطع فيها الوظيفة مع الأدب، ومع العزوبية والزواج، تظهر فى الكتاب الأسماء الكبيرة التى عمل معها محفوظ، من أستاذه الشيخ مصطفى عبدالرازق، إلى على أحمد باكثير، ويحيى حقى، وثروت عكاشة، وتبدو الأوراق كاشفة عن معلومات طريفة تاهت أو فقدت، منها مثلا أن محفوظ حصل على البكالوريا، التى تساوى الثانوية العامة، بمجموع 60%، ومنها أنه أُعفى من دخول التجنيد؛ لأن شقيقه محمد كان ضابطا فى الجيش.

محفوظ الذى أخفى حكاية زواجه وإنجابه، يُضطر كموظف أن يسجلها تفصيليا فى الأوراق، التى احتفظت أيضا ببلاغته، فكتب ذات مرة فى طلب إجازة: «أتشرف بأن أرجو الموافقة على منحى إجازتى الإعتيادية، قانعا منها بالمدة من 12/ 9/ 1959 إلى 1/10/1959، مراعاة للفترة التى قضيتها فى رحلة يوغسلافيا».

الأوراق، عموما، تكشف عن موظف كبير، كل تقارير رؤسائه تعطيه 100%، باستثناء مرة واحدة فى العام 1954 حصل فيها على 94% فقط، كما تكشف مسيرته الوظيفية عن أنه رفع قضية وكسبها، بعد أن سحبوا منه الدرجة الرابعة فى وزارة الأوقاف، لصالح شخص آخر، لديه واسطة مريبة أخلاقيا.

كان موظفا نموذجيا، مثلما كان أديبا عظيما.. حضرة المحترم الأستاذ نجيب.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات