سرديّة أم كلثوم - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 11 مايو 2025 12:19 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

سرديّة أم كلثوم

نشر فى : السبت 10 مايو 2025 - 8:05 م | آخر تحديث : السبت 10 مايو 2025 - 8:05 م

 

ليست فقط مطربة استثنائية، ولكنها كانت أيضًا شخصية درامية بامتياز، سواء بسبب ثراء رحلة صعودها من القرية إلى القمة، أو لأن حياتها تترجم تغيّر أحوال المرأة والوطن فى فترة زمنية طويلة، أو بحكم البشر والعباقرة الذين ساهموا فى مجدها، أو بمعيار الدور والمكانة والـتأثير العابر للأزمان وللأجيال.

أم كلثوم تعود فى كتابٍ جديد، صدر عن دار ديوان للقاص المتميز حسن عبد الموجود، تحت عنوان «أم كلثوم.. من الميلاد إلى الأسطورة»، يمكن أن نعتبره سردية فى شكل لوحاتٍ مكتوبة، فقد اختار المؤلف من حياة الست مواقف بعينها، تتكامل معا، لترسم فى النهاية الصورة كاملة، من الميلاد حتى الوفاة، وتتنوع أشكال السرد من المقال القصصى، إلى ما يقترب من القصة القصيرة، وبالاعتماد على الواقع، وتلوينه فقط بما يلزم من خيال، يملأ الفراغات، خضوعًا لسلطة الفن والجمال.

هى إذن - بمعنى ما - سيرة الست عبر مواقف أعيد بعثها، مضافًا إليها مجموعة من الصور الفوتوغرافية الرائعة، كثير منها نادر للغاية، وبعيد تمامًا عن صور الست الرسمية الشهيرة، ومتسق جدًا مع مضمون كل قصة أو حكاية. وكأن الفوتوغرافيا تذكِّرنا بأننا سنرى الست لأول مرة، مع أننا رأيناها كثيرًا جدّا، مثلما سنقرأ عنها لأول مرة من زاوية حسن عبد الموجود الطريفة، فكأننا نقرأ عنها أيضًا لأول مرة.

أول ملمح من ملامح هذه التجربة السردية هى حرية الشكل، بمعنى أن الكاتب لا يضع المادة الواقعية قى قالب جاهز، ولا يستخدم نفس الباترون المحدد، وإنما يرى ما يمكن أن تحتمله القصة من شكل، ويسير معه، فالشكل هنا فى خدمة المادة، المهم هو أن تتكامل عناصر المادة فى ذاتها، وأن تحمل معنى وفكرة، وأن يكون السرد سلسًا ومتدفقًا وممتعًا.

بهذا المنطق الحر، يمكن أن تقرأ حكاية بصوت راوٍ عليم مراقب، ويمكن أن يحكى المؤلف من زاوية صوت ذات متكلمة بعيدًا عن أم كلثوم نفسها، فتقرأ سردية بصوت شقيقها خالد البلتاجى، أو بصوت الملحن سيد مكاوى، أو بصوت المصور الفذ فاروق إبراهيم، وبنفس هذا المنطق الحر يُعاد تشكيل الزمن فى الحكاية، كأن تكون الست فى موقف بعينه، فتتذكر مواقف أخرى مرتبطة، مثل لوحة علاقتها مع الشيخ أبو العلا محمد، وهذا تكنيك قصصى بامتياز، يستهدف الدمج والتكثيف، كما قد يأخذ السرد شكل حوار للست مع صحفى.

الملمح الثانى هو اختيار الكثير من الجوانب الطريفة، وغير المألوفة، ليس فقط التماسًا للجدة، وابتعادًا عن التكرار، ولكن أيضًا تفتيشا عن دراما الكواليس التى تلقى أضواء أعمق حول طبيعة الشخصية، وجوانبها الإنسانية، وظروفها الخاصة؛ أى البحث بالعمق، وليس من خلال السطح.

لدينا بالتأكيد القصص الشهيرة عن علاقة ثومة بوالدها، وبالشيخ أبو العلا، وبملحنيها الكبار، وبأحمد رامى، ولكن لدينا أيضًا خلافاتها مع السنباطى حول قفلة أغنية «الأطلال»، والقضية التى رفعتها على محمد الموجى؛ لأنه تكاسل فى تلحين أغنية «للصبر حدود»، ولقاؤها مع كوكو شانيل، وحكاية حارسها الخاص الذى يبعد عنها المعجبين فى الحفلات، وقصتها مع صاحب هتاف «عظمة على عظمة يا ست»، وحكاية مسدس القصبجى الذى أخذه معه، بعد أن اكتشف ظهور ملحن شاب فى حياتها اسمه محمود الشريف!

التفاصيل والأشياء حاضرة فى السرديات مثل البشر، هناك مثلًا لوحة عن «مناديل أم كلثوم»، وعن محبتها لتناول البيض بنهم واستمتاع، وعن الأطفال الذين كانوا يشبعون لديها عاطفة الأمومة المحرومة منها، وسردية كاملة ممتعة عن فساتين الست، ورحلتها مع مديحة يسرى إلى أكثر من خيّاطة لاختيار الفستان المناسب.

وبينما نرى الست وفرقتها على المسرح، فإن الكتاب يُعنى أكثر بكواليس هذه العلاقة الملتبسة مع العازفين. من كان يتخيل - مثلًا - أن هؤلاء الجالسين خلفها، المستمتعين والفخورين بعزف أغنياتها، يلحّون دومًا على زيادة أجورهم، بينما كانت ترفض بشدة، مما جعلهم يتهمونها بالبخل؟!

نرى كبار العازفين؛ مثل عبده صالح، وأحمد الحفناوى، وعازف الناى سيد سالم، كبشر وكشخصيات حية، كيف عملوا مع الست؟ وكيف سارت علاقتهم معها صعودًا وهبوطًا؟ وكيف اختلط الإنسانى بالفنى، والذاتى بالموضوعى، فى تلك العلاقة؟ البشر من الداخل هو منهج السرد، وهذه هى المعرفة الحقيقية.

فى إحدى اللوحات الغريبة، تتبدل صفة أم كلثوم من المطربة الكبيرة إلى نقيبة الموسيقيين التى تقوم بحل خلاف ومشكلة بين الراقصة تحية كاريوكا ومحمد عبد المطلب من ناحيةٍ، وبين المطرب عبد العزيز محمود من ناحيةٍ أخرى. نرى تحية وعبد المطلب وعبد العزيز محمود مثل أطفال كبار يتعاركون، ويتشاكسون، ويغضبون، ويقول عبد العزيز محمود للنقيبة إن تحية تغيظه وتشتمه وهى ترقص خلفه، فتستخدم أم كلثوم ذكاءها فى تحقيق التصالح، ولكنها تشعر بالإنهاك والإرهاق من هذا الاشتباك «العيالى»، فتهتف فى نهاية الحكاية: «يخرب بيتكم جميعًا!».

تتكامل اللوحات فى رسم «بورتريه» واضح المعالم لأم كلثوم، يكاد يترجم وصف بليغ حمدى لها عندما قال: «إنها فلاحة فى البيت، وإمبراطورة خارج البيت»، ولعل ذلك سر توازنها واستمرارها. هى شخصيتان متصالحتان فى جسد واحد، بسيطة ومعقّدة جدّا فى نفس الوقت، قوية الشخصية، وضعيفة تمامًا أمام أشياء محددة؛ مثل أهلها وأسرتها والأطفال، محافظة جدّا، ولكنها منفتحة على العالم كله، ومستعدة للحوار والاقتناع، تعيش فى قلب الصخب والأضواء والناس، وبين الجموع وآلاف المعجبين، ولكنها أيضًا وحيدة، تغنى للحب، بينما تعذبت فى حكاية حبها، وعذّبت عشاقها أيضًا.

من أكثر لوحات الكتاب تأثيرًا مثلًا تلك السردية عن حالتها الصحية الدقيقة، وعن رحلة علاجها الذرى فى أمريكا، وعن تأثير هذه الحالة على تصرفاتها، وعصبيتها فى التعامل أحيانًا، بالإضافة إلى تأثير المرض على جحوظ العينين، وتضخم الزور، والتعب والأرق، وضعف العضلات، وسرعة ضربات القلب.

نظن أنها حكايات متفرقات، لنكتشف أخيرًا أنها لوحة واحدة، صُنعت من فسيفساء ملوّنة.

 

 

 

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات