ضباط ودولة - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 4:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضباط ودولة

نشر فى : الخميس 16 أغسطس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 16 أغسطس 2012 - 8:00 ص

فى الشهور الأولى التى أعقبت أيام الثورة النبيلة وخلع مبارك، كان المجلس العسكرى الحاكم يدعو تِباعا، مجموعات من الكتاب والإعلاميين وأصحاب الرأى للقاءات تعارف فى شكل دعوة على العشاء موجهة من مجموعة صغيرة من أعضاء المجلس العسكرى، لمجموعة صغيرة ممن ذكرت، بهدف تبادل الرأى، والوصول إلى أفضل السبل لمواجهة تحديات المرحلة. وقد تلقيت فى إطار ذلك دعوة وجهها لى اللواء محمد العصار، ووجدت معى فى هذا اللقاء الدكتور حسام عيسى والأستاذة ريم ماجد والدكتور عمار على حسن، بينما لم يكن هناك من أعضاء المجلس العسكرى مع اللواء العصار سوى اللواء عبدالفتاح السيسى رئيس المخابرات العسكرية آنذاك.

 

إننى عادة ما أهرب من أى لقاء فيه شبهة الرسميات، خاصة مع أطراف من السلطة، لكن صيغة الدعوة كانت رقيقة ومفعمة بتواضع جميل، فعندما وجد اللواء العصار هاتفى لايرد، أرسل رسالة بصيغة الدعوة التى لم أتردد فى تلبيتها وبحماس أيضا، لسبب أعمق من الشكليات، هو وعى يكاد يكون من أكبر هواجسى السياسية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية بمفهوم «الدولة»، وقد كان الخطر محدقا بهذا المفهوم فى ملابسات الانهيار الأمنى وتداعى جهاز الشرطة، وبدء ظهور بوادر الانفلات فى المجتمع، بينما لم تكن هناك خارطة سير واضحة، ومن ثم كان وجود الجيش كمؤسسة قوية ومتماسكة فى السلطة هو الضامن الوحيد لتماسك «الدولة»، وعندى فى شأن مفهوم الدولة هذا حكاية.

 

فى مطلع العام 1977 تم اعتقالى وأنا طالب فى كلية طب المنصورة على زمة انتفاضة 18 و19 يناير، ولأننى كنت شابا متوهجا وبريئا والحمد لله، لم أر أى ضرورة لإخفاء قناعاتى فى نظام الحكم آنذاك، وقد كنت ولا أزال أعتبرها صحيحة، ثم إننى لم أكن أمثل إلا نفسى، فلا انتماء حزبى سرى أو علنى يحكمنى، وأكثر من ذلك كان ما يبدو من قناعات سياسية تحركنى نابعا من مفاهيم إنسانية وجمالية لم أر أن هناك أية مبررات لإخفائها، بل كنت متيقنا أن من العار إخفاؤها، وتتلخص هذه القناعات فى أن الحكم غير العادل هو تقبيح لسوية وجمال الحياة، وأنه لا سبيل للشعور بجمال الحياة والسعادة الفردية فيها بغير الوجود فى محيط يعيش بكرامة إنسانية كافية.

 

لم أكن قائدا طلابيا سياسيا كما تصور الأمن والبعض، بل كنت مشروع كاتب معارض لنظام مستبد ولعوب وخطِر على الأمة، أُعبِّر عن قناعتى بالكتابة فى مجلات الحائط والحديث فى المؤتمرات الطلابية، وكانت المسألة بالنسبة لى هى نُشدان لجمال وشرف الحياة وليست أيديلوجيا سياسية، ومن ثم كان قول الحقيقة منقوضا ولو ذرة مما أعتقد محض خيانة لنفسى، لهذا قلت فى التحقيق إن هناك عصابة تحكم مصر، وعلى رأسها رئيس الدولة آنذاك، وسميت أفراد العصابة بالاسم الصريح، وقلت إننى تظاهرت وسأتظاهر ضد هذه العصابة وسياساتها المنافية للعدل والحرية حتى تسقط. واعتُبر ذلك اعترافا بالتحريض على التظاهرات الحاشدة والعارمة التى وقعت فى مدينة المنصورة إبان هذه الانتفاضة، والأخطر كان تحميلى مسئولية كل ما نجم عنها!

 

نشرت الصحف قرار الاتهام فى القضية بينما كنت فى السجن مع عدد قليل ممن استبقوا متهمين فى القضية، ووضعونى متهما أول طلبت له النيابة حكم الأشغال الشاقة المؤبدة، ورأى بعض المحامين المحليين أن أطلب إعادة التحقيق وأنكر ما سبق أن أدليت به، ورفضت مقتنعا بأننى قلت الحقيقة ولا شىء أكثر. وظلت قرارات استمرار الحبس تتكرر على مدى سبعة أشهر، بل تردد أن وزير العدل حينها حضر إلى المنصورة قُبيل انعقاد جلسات المحاكمة للضغط على القضاة بإيعاز من الرئيس الذى كان بالغ الحنق على ما حدث فى المدينة كما على ما أدليت به من جهر فى حقه. عندئذ ظهر محامو مصر العظام، وتجلى قضاء مصر الشامخ، وعرفت فى ذلك الظهور وعبر ذلك التجلى مفهوم «الدولة».

 

النبيل أحمد نبيل الهلالى رأَس فريق الدفاع فى القضية واختصنى بالمرافعة دون أن يطلب منى أبدا التراجع عما أدليت به، بل اعتبره شهادة سياسية مُشرِّفة، وعلى مدى خمس ساعات قدم مرافعة كبرى، لاتزال تُدرَّس فى معهد المحاماة، عن الفارق بين مفهوم «قلب نظام الحكم» و«قلب نظام الدولة». وأتذكر أنه فى خضم المرافعة اعتذر عن طول الوقت، فقال له رئيس المحكمة الجليل: «اتفضل يا أستاذ نبيل استمر.. احنا هنا جايين نسمعك». وحصلت على البراءة كاملة غير منقوصة مما نسف القضية كلها، وأسس قانونيا لحق المُعارضين فى العمل سياسيا على تغيير «نظام الحكم»، طالما أن ذلك لم يتجاوز إلى هدم «كيان الدولة».

 

من تلك الذكرى عميقة الأثر فى كيانى كان تماسك «الدولة» هو الهاجس الذى تشبث بوعيى فى أعقاب خلع نظام الفساد والاستبداد السابق وانهيار مؤسسة الشرطة وافتقاد الأمن وظهور بوادر الانفلات، ومن ثم كان ترحيبى بدعوة اللواء العصار متجاوبا مع أعمق هواجسى كما تمنياتى، وكان لدىّ مقترحات أعتقد أنها كانت مهمة فى تصور الاستعادة السوية لجهاز بالغ الأهمية كالشرطة، وهو مما كتبت عنه أكثر من مرة على اعتبار أن هذا الجهاز بمثابة الجهاز المناعى فى جسم «الدولة» وأنه متى ما انهار أو ضعف، فتح بوابة لغزو ميكروبات شتى قد تفتك بالجسم أو تُقعده. كما كان لدىّ تصورات فى الشأن العام وددت لو انقلها لأصحاب القرار فى هذه المرحلة شديدة الخطورة. وامتد اللقاء من السابعة مساء حتى الواحدة والنصف ليلا.

 

أكثر من ست ساعات من الصراحة والصدق الكاملين أبداهما كل حضور ذلك اللقاء، ولفت نظرى ذلك النوع من الضباط العسكريين الذى لم أتصور وجوده لدينا، حيث الرؤية الحضارية الشاملة ممثلة فى علمية المداخلات التى أبداها اللواء العصار الذى تبينت أنه مهندس خريج الكلية الفنية العسكرية زمن كان لايدخلها غير صفوة المتفوقين الوطنيين الذين تخلّوا عن كليات القمة للالتحاق بالسلك العسكرى. كما كان مبهرا ذلك العرض الشامل الذى قدمه على مدى ساعة كاملة اللواء السيسى لمجريات ودقائق الأمور باللأرقام والوقائع الموثقة للأوضاع المصرية الداخلية كما التقاطعات الإقليمية والعالمية. وكان النقاش شديد الخصوبة من جانب الضابطين الكبيرين كما من جانبنا. ولعل أكثر ما أسعدنى فى ذلك المساء هو الحضور المعرفى اللامع لرأسين من رءوس المجلس العسكرى الحاكم آنذاك والممثل للمؤسسة الوحيدة المتماسكة من مؤسسات الدولة الأهم، ومن ثم الكابحة لمخاوف انهيار الدولة التى كانت ولاتزال أكبر مخاوفى، خاصة بعد أن عاينا نماذج انهيار الدول كما فى الصومال والعراق وأفغانستان، ففيها يصل شقاء الناس إلى حد الموت المجانى كل يوم وكل لحظة.

 

هذان الضابطان الكبيران وحرصى على مفهوم الدولة شكلا معا أشد حالات استغرابى وارتباكى، إذ كنت لا أستطيع أن أفهم كيف يكون هناك مجلس عسكرى به مثل هذين الرأسين النابهين وتحدث أخطاء وخطايا فى ظل ذلك المجلس الحاكم من مثل مجازر ومهازل ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وكشوف العذرية والعصف بالمدنيين فى السجون العسكرية. وكان أن مكثت قابضا على النداء بتماسك الدولة دون أن أتخلف عن إدانة المجازر والمهازل التى وقعت. وظللت أشفق على نصاعة صورة هذين الضابطين بينما تطالعنا صور أخرى نقيضة لهما وخارج الزمان، إلى أن صدر القرار الرئاسى بترقية اللواء السيسى إلى رتبة فريق أول وتعيينه وزيرا للدفاع وقائدا عاما للقوات المسلحة، وتعيين اللواء العصار مساعدا لوزير الدفاع.

 

إنه اختيار شديد التوفيق لتجديد دماء المؤسسة العسكرية، وإزاحة بقاء المسئولين المزمن فى مواقعهم، وأعتقد أن هذا الاختيار ليس للرئاسة وحدها وإن كانت تُحمَد على مشاركتها فيه، وفى ذلك أذكر حديثا مع الصديق العزيز والمثقف الكبير والأديب اللامع جمال الغيطانى جرى بيننا منذ شهر على الأقل قبل صدور قرارات الرئيس الأخيرة، وفيه جاءت سيرة اللواء السيسى فقال جمال الغيطانى «دا كويس جدا.. دا غالبا وزير الدفاع اللى جاى». وأنا أستعيد هذا الإنباء الآن، فأوقن أن الاختيار كان نابعا من قلب المؤسسة العسكرية وليس مفروضا عليها، فجمال الغيطانى لم يكن يقرأ الغيب، بل كان يستقرئ تفكير هذه المؤسسة من واقع خبرته الثرية ميدانيا ومعرفيا كمراسل عسكرى سابق بارع.

 

يبقى أن حُسن الاختيار وحده لايحسم قضية الخير، فالمسائل معلقة أيضا بالنوايا، هل القرارات الرئاسية الأخيرة تستهدف الحق العام أم القوة الخاصة، إذا كان الحق العام فى مسيرة دولة مدنية ديموقراطية حديثة فهو صواب ينبغى الترحيب به، أما إذا كان توظيفا للخير فى شر التمكين الخاص لطيف مصرى واحد دون سائر أطياف الأمة، فهو مكرٌ سيئ لن يحيق إلا بأهله، والأيام كفيلة بسفور الأمور.

 

نتمنى الخير. وعيد سعيد.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .