الشاطئ الآخر - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشاطئ الآخر

نشر فى : السبت 17 سبتمبر 2011 - 9:00 ص | آخر تحديث : السبت 17 سبتمبر 2011 - 9:00 ص

على شاطئ الإسكندرية بشر لا حصر لهم.. أرجل وأذرع ووجوه، تأتى نهارا وتمكث حتى مغيب الشمس، بعضها يكتفى بيومه وهناك من يبيت على الرمال.. أراقب البحر المجانى من شرفتى الصغيرة، فسحة الفقراء الذين لا يملكون ترف الفندقة، أراه يتلقفهم هاربين من قيظ القاهرة، يهدهدهم لساعات كمصطافين، يجردهم من بعض همومهم ثم يتركهم دون وعود، أفكر أنه كثيرا ما يستقبلهم أيضا بين أمواجه هاربين من ضيق الرزق، يحملهم مهاجرين، يتلاعب بأمنياتهم وطموحاتهم ومخاوفهم، وفى أحيان كثيرة يختار أن يحتفظ بهم فى جوفه فيريحهم من عبء المحاولات المتكررة للرحيل.

 

●●●

 

لنا فى الهجرة غير المشروعة ميراث صار ضخما خلال السنوات الماضية، التسلل عبر المياه إلى حدود أخرى وبلاد بعيدة حلم راود شبابا كثيرين فى ظل ظروف صعبة، ومستقبل كساه الضباب وخنقته عتمة القهر. ما قبل الخامس والعشرين من يناير كانت هناك ثلة تملك وتحكم وتحيك قوانينها الخاصة وتنفذها، تستولى على الحاضر والقادم وتجمع كل شىء فى جعبتها حتى الفتات. كان الهروب قد غدا منفذا وحيدا حتى مع مخاطر البحر الجمة، وفى حين غرق العشرات وربما المئات ظل هناك من يحاولون مرة تلو المرة، وكأنما اختفت كل الاختيارات الأخرى وتبخرت، وبقيت الهجرة سبيلا وحيدا للبقاء ومن دونها الموت. كما يأتى البحر بالكثير، يأخذ أيضا الكثير.

 

رغم أننا قد نفضنا خمول تلك السنوات وأتربتها وعللها، ورغم أننا قد هدمنا جزءا من الجدار وفتحنا طاقة ضوء، رغم المليونيات وأيام الغضب والصمود وتصحيح المسار، رغم حماسة جدت علينا وأيقظت قدرتنا على الفعل، رغم كل هذه المظاهر والتغيرات، فإن المحاولات غير القانونية للهجرة تتوالى وكأن شيئا لم يجر، لا ثورة ولا انتفاضة ولا إسقاط لنظام، كل تلك الأحداث لا تبدو أنها قد بثت بعضا من الأمل فى نفوس وعقول المهاجرين. فى الأشهر القليلة الفائتة تواترت أنباء عن احتجاز كثيرين ممن حاولوا السفر عبر شواطئ المتوسط، وفى أغسطس تزايدت الأخبار المنشورة عن المراكب والسفن التى تم ضبطها وسط البحر وعلى متنها مئات من الشباب، وفى الأسابيع الثلاثة الأخيرة من الشهر ذاته أُحبِطَت ست محاولات قام بها ما يزيد على مائتين وأربعين شابا ــ مقابل محاولتين فقط فى شهر يونيو قام بها مائة شاب تقريبا ــ للفرار من الوطن. تلك الأعداد هى فقط ما تم رصده وإجهاضه ثم الإعلان عنه، لكن هناك من أقدم ونجح ووصل دون أن يدرى أحد به، وقد درجنا على اعتبار الإحصاء الفعلى لأى ظاهرة مجاوزا لما يصل إلينا ربما بنسبة مضاعفة.

 

أغلب المحاولات تمت عبر سواحل الاسكندرية، وفى بعضها اختار سماسرة البحر جمصة وبورسعيد، أما الوجهة المنشودة من جميع المهاجرين فى بطون السفن وعلى أسطح مراكب الصيد فكانت دائما إيطاليا، التى تتلقف سنويا الآف من الباحثين عن حياة جديدة. الشباب المسافرون جاءوا من محافظات مختلفة فهناك من قدم من البحيرة والغربية وهناك من جاء من الصعيد، أسيوط والفيوم، وهناك أيضا مهاجرون من المنوفية والشرقية والقليوبية وكفر الشيخ.

كل شاب اتفق مع مُهَرِّبه على مبلغ مالى يتراوح ما بين ثلاثين وخمسين ألفا من الجنيهات، مِن السماسرة مَن اشترط دفعها كاملة قبل الشروع فى الرحلة وهناك من قبل بجزء على أن يسدد الأهل باقى المبلغ فور وصول الابن إلى الشاطئ الآخر.

 

أخبار المراكب المهاجرة وآلاف الجنيهات التى يقترضها الهاربون من معارفهم كى يتكوموا فى جوفها جعلتنى أشعر أننا إذا نقبنا قليلا فيما بيننا، مبتعدين عن مناطق الزخم والازدحام والأخبار السريعة المتتالية والمزاج الثورى المشتعل، فسوف نجد من لم يعرفوا بقيام ثورة، ومن عرفوا ولم يحفلوا بالأمر، ومن عرفوا وحفلوا لكن قطرة من قطرات التغيير لم تصبهم ولم تمس أحلامهم، عبثا انتظروا أن تنالهم ولو شذرة منه لكنها لم تأت، عادوا إلى إغلاق آذانهم وأعينهم واختاروا الحلول ذاتها التى سبقهم إليها آخرون. ربما أدركوا أن الحلم الأخير الذى اعتبروه ــ رغم بعده ــ حلا سحريا لكل معاناتهم، قد تحقق دون فائدة: رحل مبارك بعائلته عن الحكم، لكن النظام الذى خلفه لم يرفع عن كاهلهم أى هم أو ضيق، أضاف إلى عجزهم عجزا وإلى قلة حيلتهم أكواما من القنوط والتعاسة والإحباط.

 

كثيرون هم من لا تتعدى طلباتهم وظيفة وراتب متوسط يضمن حياة معتدلة دون رفاهية وتدليل، لكن هناك من يستكثر احتياجاتهم، ومن يطالبهم بالصمت والصبر ومن يرفع فى وجوههم لافتات التخوين والأنانية. كثيرون هم من يرضون بالقليل لكن هناك من يحتقر احتياجاتهم ويدفع أمامهم بشعارات مثالية كبيرة وعظيمة، يطالبهم بالتضحية وبتقديم الوطن على أنفسهم، ويتناسى أنه مِن هؤلاء البشر المدهوسين تحت الأقدام يتآلف الوطن.

 

●●●

 

الحقيقة أن ارتباط المصريين بمكانهم قديم جدا، لا يرحب المصرى بالسفر كثيرا، لا يحبذ مفارقة الأهل والأصدقاء والجيران وعاداته اليومية وحتى مشكلاته الصغيرة.. المصرى (عِشَري) جدا، يلتصق بموضعه، لكن التداعيات والانكسارات المتتالية تغير الطبائع والميول. ربما يصف البعض هؤلاء المهاجرين بالتخاذل وبالبحث عن المكسب السهل، لكنه يبدو أيضا أن ثمة حاجة ضرورية لأن تصل الثورة بمفهومها وبتطبيقاتها وتداعياتها وانعكاساتها إلى الناس جميعا دون استثناء ودون استبعاد، أن تزلزل فى وعينا الجمعيّ ذاك اليأس المكتسب الذى توطن واستقر، أن تصبح جزءا من إيماننا بأنفسنا وقدراتنا، وأن نخرج منها بالبرهان على أننا قد حققنا نصرا حقيقيا وليس متوهما، أننا غيَّرنا وأننا قادرون على المزيد.

 

تهاجر الطيور من أرض إلى أخرى ومن سماء إلى سماء بحثا عن الاستمرار، عن الماء والطعام والمأوى والوليف. مثلها يفعل هؤلاء الشباب.. الفارق الوحيد بين الهجرتين أن الطيور تعود إلى موطنها طوعا بينما شبابنا يعود مُجبرا أو لا يعود.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات